خبرني - في المجتمعات التي تزداد فيها الأعباء المعيشية وتتفاقم الضغوط الاقتصادية، تبرز بين الحين والآخر أصوات تدعو إلى إعادة النظر في بعض المظاهر الاجتماعية التي تحولت من عادات إلى أعباء ثقيلة.
من هنا، جاءت مبادرة وزير الداخلية مازن الفراية التي دعا فيها إلى مناقشة مجموعة من الأفكار الاجتماعية، أبرزها تخفيف المهور للمقبلين على الزواج، واقتصار بيوت العزاء على يوم واحد، وتقليل أعداد المشاركين في حفلات الخطوبة والزفاف، بما يسهم في تخفيف الأعباء عن الناس ويحافظ على القيم الأصيلة بعيدا عن المظاهر الشكلية المرهقة.
المبادرة التي جاءت على شكل اقتراح للنقاش المجتمعي وليست توجيها رسميا أو قرارا إداريا، أثارت تفاعلا واسعا بين مؤيد يرى فيها طرحا جريئا من مسؤول قريب من نبض الناس، ومعارض اعتبرها تدخلا في الثقافة والعادات الاجتماعية الراسخة.
وبين هذين الموقفين تحول النقاش إلى ما يشبه العاصفة على مواقع التواصل الاجتماعي، طغت عليها في بعض الأحيان نبرة التنمر والسخرية بدل الحوار الهادئ حول مضمون الفكرة وجدواها.
جوهر المبادرة -كما يبدو- ليس في مضمونها بقدر ما هو في طريقة طرحها وزاوية النظر إليها، فالوزير الفراية لم يصدر قرارا ولم يفرض رأيا، بل قدم مقترحا كمواطن قبل أن يكون وزيرا، متفاعلا مع ما يعانيه كثير من الشباب والعائلات الأردنية من ضغوط مالية واجتماعية بسبب المغالاة في المظاهر المصاحبة للأفراح والأتراح، والمفارقة أن مضامين هذه المبادرة ليست جديدة على المجتمع الأردني، فقد سبقتها بالفعل خطوات عملية من العديد من العشائر والعائلات التي بادرت طوعا إلى تحديد سقف للمهور وتقليص أيام العزاء، وتقليل النفقات في المناسبات الاجتماعية، إيمانا منها بضرورة التكيّف مع الواقع الاقتصادي الصعب.
إن ردود الفعل الغاضبة أو الساخرة التي رافقت المبادرة تعكس حساسية العلاقة بين العادات الاجتماعية والوعي الجمعي؛ فالكثير من الناس يخلطون بين احترام العادات والتمسك بها من جهة، وبين رفض أي نقاش حولها من جهة أخرى، والحقيقة أن المبادرة لم تمس جوهر القيم الاجتماعية، بل سعت إلى تصحيح بعض الممارسات التي تجاوزت حدودها وأصبحت عبئا على الناس، دون أن تمس الكرامة أو التقاليد الأصيلة.
لا أكتب هذه السطور دفاعا عن الوزير الفراية أو تبريرا لمبادرته، إذ لا تربطني به أي صلة قرابة أو معرفة خاصة، ولم ألتقه إلا ثلاث مرات فقط، في إحداها شكرني على تنظيم بطولات وزارة الشباب الكروية الرمضانية والصيفية التي كان يتابعها بشغف، لحبه لكرة القدم وممارستها مع أصدقائه والشباب والذي يبدو أن قربه من الناس جعله يطرح المبادرة، وليس من موقع المنصب أو السلطة.
إن جوهر ما يجب التركيز عليه اليوم ليس في شخص الوزير أو موقعه، بل في البيئة التي تستقبل الأفكار الجديدة، وفي مدى استعداد المجتمع للحوار الهادئ حول قضاياه اليومية، فالمجتمعات الحية هي التي تناقش وتطور عاداتها بما يخدم المصلحة العامة، لا التي تهاجم كل رأي لمجرد أنه جاء من مسؤول.
مبادرة الفراية لم تكن أكثر من جرس تنبيه اجتماعي، دعا فيه إلى مراجعة بعض المظاهر المرهقة التي باتت تثقل كاهل الأردنيين، وهي بذلك تستحق النقاش لا السخرية، والتطوير لا الرفض المطلق، وربما يكون النقاش الذي أثارته هو أهم إنجاز لها، لأنها أعادت طرح سؤال جوهري على طاولة الأردنيين: "هل نملك الشجاعة الكافية لمراجعة عاداتنا الاجتماعية بما يتناسب مع واقعنا الاقتصادي؟".




