*
الجمعة: 05 ديسمبر 2025
  • 05 أكتوبر 2025
  • 08:39
الكاتب: أ. د. بسام الشخريت

خبرني - قد خُلق الإنسان وفي داخله نزعة فطرية إلى الدفاع عن نفسه إذا اتُّهم، وإلى رفع صوته إذا طاله ظلم أو افتراء. 
غير أنّ المأساة الحقيقية تبدأ حين ينقلب ميزان القيم، فيغدو المظلوم وكأنّه مُلزمٌ بإقناع جلاده ببراءته، أو مجبراً على مدّ يده إلى من غرس فيها السكين ليُريه الدم النازف دليلاً على صدقه. 
وهنا تكمن أعظم خيانةٍ للنفس: أن تستجدي اعترافاً بالحق ممّن يعلم الحقّ جيّداً ثمّ ينكره عمداً، لأنّ مواجهة الحقيقة أثقل من أن يحملها قلبٌ جبان.

إنّك حين تحاول أن تثبت نقاءك لظالمك، تكون كمن يضيء مصباحاً في كهفٍ لا يطلب الضوء، بل يقتات على الظلمة. 
هو لا يجهل ما اقترف، بل يهرب من الاعتراف به، لأنّ الاعتراف مرآة، والمرآة تفضح وجوهاً لا تحتمل النظر إلى ذاتها. فالهروب أهون عنده من مواجهة نفسه، والإنكار أيسر من الاعتراف، ولهذا يرتدي قناع المظلوم وهو في الحقيقة أعتى الظالمين.

لا تُنهِك روحك في التبرير، ولا تُسرف في الشرح؛ فإنّ من نوى الظلم لا يبحث عن الحقيقة، بل يبحث عن شماعة يعلّق عليها قذارته. 
هو يتصيّد فيك الزلّات، ويفتش عن ثغرةٍ صغيرة ليحوّلك من ضحية إلى متّهم. حتى إذا واجهته بجرحك قال ساخراً: "أنت تبالغ"، وكأنّ الألم في قاموسه وَهْم، وكأنّ الطعن لا يؤلم إلّا إذا اعترف الطاعن بذنبه. 
وتلك أبشع صور الجور: أن يتعمّد الظالم أن يتبرّأ من نفسه، ويلبس ثوب البراءة فيما الدماء على يديه لم تجف بعد.

لا تظن أنّك قادر على إيقاظ قلبٍ أطفأتْه الأحقاد، أو إحياء ضميرٍ قَتَلَه الهوى. فالحقد إذا رُسِّخ في القلب جعله كالحجر الأملس، لا ينفذ إليه نداء، ولا تتعلّق به حجة. 
ومن عرف أنّك على الحقّ ثمّ أبى أن يراك إلّا مبطلاً، فمشكلته ليست في قلّة البراهين بل في موات الضمير، والضمير الميّت لا تحييه ألف كلمة ولا توقظه كلّ صيحات الأرض.

فاحمِ ما تبقّى منك، وصُنْ جوهرك النقي. لا تنحدر إلى مستوى العبث، ولا تتلوّن بلون من أراد لك الانكسار. 
دعهم في غيّهم يعمهون، وامضِ في طريقك بوقار الصمت. 
إنّ للصمت هيبة تعلو على كلّ الأصوات، والإنصراف أسمى من أي جدال. 
ففي الصمت رسالةٌ بليغة تقول: "أنا أكبر من أن أخوض معركة مع قلبٍ مريض"، ومن عرَفَك بصفاءِ عينه لا يحتاج إلى سماعك بلسانك.

وأخيراً، أيها المظلوم الكريم: لستَ محتاجاً إلى أن تُقِيمَ الدليل على نقاء سريرتك أو طيب معشرك، فصبرك ساعة الشدّة هو البيان الناطق، وأخلاقك في زمن الجور هي البرهان القاطع، وثباتك حين تقذِفُك رياحُ الظلم هو النور الذي لا ينطفئ. تذكّر أنّ للحقّ بريقاً يتجاوز كلّ غشاوة، وأنّ صوته أعلى من كلّ زيف، ولو غطّاه الضجيج حيناً من الزمن. 
واعلم أنّ الله مطّلعٌ على خفايا القلوب، وأنّ عنده لا يضيع حقٌّ ولا يندثر أثر، وأنّ صمتك يوماً سيغدو صرخةً مدوّية، تفضح الباطل وتُنصف الحقيقة.

مواضيع قد تعجبك