*
الجمعة: 05 ديسمبر 2025
  • 04 أكتوبر 2025
  • 18:59
الكاتب: الدكتور زيد أحمد المحيسن

خبرني - في عالمٍ سريعِ التغير، لم يعد مقبولاً أن تبقى البلديات تُدار بالعقلية ذاتها التي سادت في القرن الماضي، حيث الورقة والقلم، والقرارات الارتجالية، والخطط القائمة على التقديرات الظنية لا على بيانات حقيقية. التحديات المعاصرة التي تواجه المدن الأردنية، من نمو سكاني متسارع، وتوسع عمراني عشوائي، وضغط على البنية التحتية، وتزايد المطالب الشعبية بتحسين جودة الخدمات، تفرض علينا أن نعيد التفكير بمنهجية إدارة العمل البلدي، وأن ننتقل من التخطيط التقليدي إلى تخطيط رقمي استراتيجي استشرافي للمستقبل، يستند إلى الرؤية والمعرفة والتكنولوجيا، لا إلى العشوائية وردود الفعل.
لقد كان التخطيط التقليدي في البلديات الأردنية، ولا يزال في كثير منها، يعتمد على نظرة قصيرة المدى، وعلى ما تيسر من ميزانيات ومعلومات محدودة، دون الأخذ بعين الاعتبار تعقيد الواقع وتغيراته المتسارعة. غالباً ما تُعدّ الخطط البلدية بناءً على الروتين السنوي وتراكم الطلبات، لا على تحليل علمي دقيق لاحتياجات المجتمع ولا على معطيات رقمية تبيّن الاتجاهات العامة للنمو أو التراجع. أما المواطن، فهو في هذا السياق ليس شريكاً في التخطيط، بل متلقٍ سلبي لما تقرره المؤسسات، وقد يكون دوره محصوراً في تقديم شكوى أو انتظار استجابة تتأخر، إن لم تُهمل.
في المقابل، يُقدّم التخطيط الرقمي الاستراتيجي الاستشرافي رؤية مغايرة تماماً، تتعامل مع العمل البلدي بوصفه عملية ديناميكية قابلة للتحديث المستمر، تعتمد على البيانات الحية، وتحليل الاتجاهات، واستشراف المستقبل من خلال أدوات الذكاء الاصطناعي، ونظم المعلومات الجغرافية، ومنصات المشاركة المجتمعية الرقمية. في هذا النموذج، لا يعود المواطن على الهامش، بل يتحول إلى فاعل أساسي في صياغة الأولويات، من خلال تطبيقات مخصصة أو بوابات إلكترونية تفاعلية، تسمح له بتقديم الرأي، أو الإبلاغ عن مشكلة، أو المشاركة في استطلاع رأي عام يؤثر فعلياً في قرارات البلدية.
إن التجارب الحديثة لبعض البلديات الأردنية التي شرعت في تبني أدوات التحول الرقمي، وإن كانت لا تزال في بداياتها، تشير بوضوح إلى أن هذا الانتقال ليس ترفاً أو خياراً ثانوياً، بل ضرورة تفرضها المرحلة. بلدية مثل مادبا، على سبيل المثال، حين فعّلت الدفع الإلكتروني، ومنصة تقديم الشكاوى، وأنظمة الربط الداخلي، لم تُنجز فقط نقلة تقنية، بل أطلقت تحولاً ثقافياً في طريقة تعامل المواطن مع البلدية، وفي طريقة البلدية في الاستجابة للمواطن. هنا تظهر فعالية التخطيط الرقمي، حيث السرعة، والدقة، وتوفير الجهد، والقدرة على التتبع، والمساءلة المبنية على البيانات لا على الانطباعات.
غير أن هذا التحول لا يتم بمجرد توفير البرمجيات أو شراء الأجهزة، بل هو مشروع وطني متكامل، يتطلب إرادة سياسية واضحة، ورؤية استراتيجية، واستثماراً حقيقياً في رأس المال البشري، تدريباً وتأهيلاً وتطويراً. كما يستلزم مراجعة التشريعات التي تنظم العمل البلدي لتتواءم مع هذا النموذج الجديد، وتسمح بتوظيف التكنولوجيا لا فقط في تقديم الخدمات، بل في صياغة السياسات واتخاذ القرارات.
التحول من التخطيط التقليدي إلى الرقمي الاستشرافي هو نقلة نوعية في الفكر الإداري، قبل أن يكون تحولاً تقنياً. إنه انتقال من منطق ردّ الفعل إلى منطق استباق الحدث، من العمل بالورقة إلى العمل بالبيانات، من الاكتفاء بالشكوى إلى إشراك المواطن في رسم السياسات. وإذا كانت المدن الذكية قد أصبحت سمة العصر، فإن البلديات الأردنية مطالبة بأن تخطو بخطى واثقة نحو المستقبل، مستندة إلى تخطيط رقمي استراتيجي يعزز التنمية المستدامة، ويحقق الكفاءة، ويرتقي بجودة الحياة.
لقد آن الأوان لأن نتعامل مع البلديات بوصفها محركات للتنمية المحلية، لا كمجرد مؤسسات خدمية. ولن يتحقق ذلك إلا عندما نمتلك الشجاعة للخروج من عباءة الماضي، وننخرط في صناعة المستقبل، بتخطيط رقمي، استشرافي، وعلمي. فمستقبل المدن يبدأ من بلدياتها، ومستقبل البلديات يبدأ من قدرتها على التخطيط للمستقبل..
 

مواضيع قد تعجبك