*
الجمعة: 05 ديسمبر 2025
  • 01 أكتوبر 2025
  • 12:25
الكاتب: تغريد الحاج خليل

خبرني - منذ أسبوعٍ فقط تسلّمت إدارة هذه المدرسة، أحمل في قلبي حُلمًا كبيرًا بأن أصنع فرقًا في نفوس طلابها، وأغرس فيهم حبّ العلم والأمل. وفي صباحٍ بدا عادياً بين وجوه التلاميذ وأصوات أجراس الحصص وضجيج صفوفهم، كان هناك مقعدٌ فارغ يلفت النظر بصمته.
سألت عن صاحبه، فأجابتني مساعدتي فدوى  بأن الطالب "أحمد" مريض. طلبت رقم ولي أمره، لأتصل مطمئنة على حاله، لا لأكثر. رفع الأب السماعة بصوتٍ متعبٍ متردّد، وما إن سألت عن ابنه حتى قال بهدوءٍ مشوبٍ بالألم: "عودي إلي بعد قليل".
لم يطل انتظاري حتى عاد صوته، لكن هذه المرّة محمَّلاً بما يعجز القلب عن احتماله:
"أحمد مصاب بالسرطان في مراحل صعبة... يعيش على جرعات المورفين، وإن بقي على قيد الحياة يا مس سأبعثه ليكمل دراسته".
صمتُّ لحظةً والدمعة تتشبث بجفني، أبحث لها عن ملجأ فلا أجد. تلعثمتُ باعتذارٍ صغيرٍ عن إزعاجٍ ما كان في الحسبان، ودعوت الله أن يلطف بقلب ذاك الأب وقلب تلك الأم التي لن يكون المهما اقل من الم جسد ابنهما. والحين بالرجاء أن يمنّ على أحمد بالشفاء. كنتُ أسمع في نبرة الأب صبراً عظيماً يعلو على الجراح، صبراً لا يشبه إلا صبر الأنبياء.
أغلقت الهاتف، وعدتُ إلى واقع مدرستي وصوت الصفوف، لأطلب من معلمته أن تستأنف عملها، بينما انسحبتُ إلى زاوية أختلي فيها بقلبي لثوانٍ. هناك، بيني وبين نفسي، شعرت بغصّةٍ عميقة تتنقل بين صدري وحلقي، دمعةٌ تتدلّى على أطراف عيني، ودعاءٌ حار يخرج من أعماقي: اللهم اشفِ أحمد، وامنح قلب أبيه وقلب امه برد الطمأنينة في لهيب المصاب.
لقد علّمني هذا الموقف أن التعليم ليس فقط دفاتر وأقلاماً، ولا حصصاً وجداول، بل هو إنسانية قبل كل شيء. هو أن نرى في غياب طالبٍ قصة، وفي مرضه درساً، وفي صبر والده حكاية إيمانٍ تهزّ القلوب.
ذلك المقعد الفارغ في الصف الثالث لم يعد مجرّد خشبٍ وحديد، بل صار رمزاً لطفلٍ يقاوم الألم، وأبٍ يواجه المصيبة بثبات، ومدرسةٍ بأكملها ترفع أيديها بالدعاء لأحمد.
وما زلتُ، حتى هذه اللحظة، أتمتم:
"اللهم اشفِ أحمد، وامسح على قلب أبيه وأمه بيد رحمتك، وعلّمنا كيف نكون أوفياء لرسالة التعليم بالحب والرحمة قبل أن تكون معلما فأنت اب
وقبل أن تكوني معلمة فانتي ام 
واي طفل في هذا الوطن هو ابننا جميعا.
اللهم ازرع في قلوبهم حب العلم والعمل،
وحب التضحية والعطاء،
واجعلهم سواعد بناء، وألسنة صدق، وقلوباً نقية.
اللهم بارك في خطواتهم، وألهمهم الرشاد والصواب،
واجعلهم في خدمة أوطانهم أوفياء،
وفي ميادين العمل قادةً مخلصين،
وفي سبيل الحق ثابتين،
وفي طريق الخير سائرين.
اللهم اجعل هذا الوطن عامراً بقيادته و بأبنائه،
ومصوناً برجاله ونسائه،
وارزقنا فيه أمناً وإيماناً،
وسلامةً وإحساناً،
واجعلنا جميعاً مفاتيح للخير، مغاليق للشر.

مواضيع قد تعجبك