*
السبت: 06 ديسمبر 2025
  • 30 أيلول 2025
  • 19:54
الكاتب: الدكتور زيد احمد المحيسن

خبرني - في مدينة عمان العاصمة وبعض المدن الأخرى ، لا يغفو الليل، ولا يهدأ النهار. نفتح نوافذنا فنصطدم بمشهدٍ صاخبٍ لا يرحم، نُطلّ على زحامٍ من الألوان، والأصوات، والعشوائية التي تسابق بعضها البعض في الفوضى. إنها المدن التي يبدو أن صخبها لا يعرف قانونًا، أو لعل القانون يعرفها، لكنه قرر أن يغضّ الطرف.
تبدأ الحكاية من لحظة الاستيقاظ. لا توقظنا نغمة منبّه أنيق، بل تعزف لنا مقطوعة الغاز على أنغام سيارات صغيرة تجوب الأحياء، تبثّ موسيقاها المكررة دون رحمة. لا وقت لاحتساء القهوة بهدوء، فبعد الغاز، يأتي دور مناداة الأثاث القديم: "هل عندك أثاث للبيع؟"، تتبعها قوافل الخضار والفواكه تعلن عن بضاعتها بمكبرات صوت تصمّ الآذان، وكأن كل سائق قرر أن يكون مذيعًا شعبيًا في برنامجه الخاص.
وإن ظننت أن الليل سيحملك إلى واحة هدوء، فاعلم أن الليل في المدن لا ينام. تبدأ حفلات الأسطح، وأهازيج الأفراح، وتمتد حتى منتصف الليل بلا رقيب ولا ضابط. وتكتمل المسرحية بألعاب نارية تُطلق بلا مناسبة، فقط لتذكيرك أن الهدوء أصبح من الكماليات.
وفي الخلفية، تصرخ الكلاب الضالة كجوقةٍ مسرحية أُسنِد إليها دور النهاية في هذا المشهد المزعج. لكنّ الستار لا يُسدل بعد، فهناك ما هو أقسى:
تشحيط السيارات، وصوت الماتورات التي تفجّر صمت الشوارع كأنها في سباق غير معلن. المراهقون يتعاملون مع الشوارع كأنها حلبات استعراض، بلا حسيب ولا رادع، يملأون الليل طنينًا وجلبةً ودخانًا... ونحن، رهائن هذا العبث.
أما التلوث البصري، فهو الأخ التوأم لهذه الضوضاء. لوحات إعلانية تلمع بلا ذوق، أنوار محلات لا تنطفئ حتى في عزّ الفجر، ألوان تصرخ من كل ركن، وواجهات كأنها تروّج للفوضى البصرية عن سابق قصد. والنتيجة: مشهد يرهق البصر، ويستفز الإحساس بالجمال، ويزرع القبح في كل زاوية.
فهل من قانون؟
نعم، هناك أنظمة ولوائح. لكن الحقيقة المؤلمة: القانون حاضر على الورق، غائب في الشارع.
المأساة ليست في عدم وجود التشريع، بل في غياب التطبيق، وفي موت الرقابة، وفي تحوّل المدن إلى مساحات مباحة لكل من أراد أن يُزعج، ويصرخ، ويشوه.
نحن لا نطلب المستحيل، نطلب فقط مدينة تُحترم فيها آذاننا وأعيننا. مدينة تُعامل الإنسان على أنه كائن له الحق في الهدوء، وفي الجمال، وفي النوم بلا فزع. فهل أصبح طلب الراحة رفاهية؟ وهل بات احترام النظام نوعًا من المثالية الساذجة؟
 
نعم، الضوضاء صوت فوضى، لكنها أيضًا صوت فشل. فشلٌ في الإدارة، وفشلٌ في التطبيق، وفشلٌ في احترام الإنسان.
فهل من مسؤول يسمع... قبل أن نصمّ؟ وهل من جهة ترى... قبل أن يُطفأ النور كليًا؟

مواضيع قد تعجبك