*
السبت: 06 ديسمبر 2025
  • 29 أيلول 2025
  • 10:09
الكاتب: د. مراد الكلالدة

خبرني - تلعب السكك الحديدية دورًا حاسمًا في تسريع نقل البضائع والأفراد. وقد لاحظ الإنجليز منذ مطلع القرن السابع عشر أن جرَّ العربات على قضبان خشبية/حديدية يُضاعف الحمولة والسرعة، ثم أفضت تحسينات المحرك البخاري الذي طوّره جيمس واط إلى تشغيل القطار البخاري فعليًا في إنجلترا عام 1804. وبوابة الامتيازات الأجنبية (Concessions) نقلت التقنية إلى المجال العثماني؛ فافتُتِح خط الإسكندرية–القاهرة في خمسينيات القرن التاسع عشر، وتلا ذلك إنشاء وتشغيل الخط الحديدي الحجازي بين دمشق والمدينة المنوّرة (1900–1908) مع فرع درعا–حيفا.
وعلى الرغم من نُبل فكرة الخط لخدمة الحجيج، تعرّض خلال عامَي 1917–1918 لهجمات كثيفة من قوات الثورة العربية بدعم ضباط بريطانيين من بينهم لورنس، ما عطّل القطاع الجنوبي من معان باتجاه الحجاز وأوقف الحركة المنتظمة هناك. أمّا الشطر الشمالي داخل الأردن وسوريا فاستُخدم بشكلٍ محدود لعقود عبر سكة حديد الحجاز الأردنية.
بعد إنشاء إمارة شرق الأردن عام 1921 تولّى الجيش العربي إدارة الجزء المار داخل الأراضي الأردنية، ثم قُنِّن وضعه بقانون خاص بعد الاستقلال: فقد اعتبر قانون الخط الحديدي الحجازي رقم (23) لسنة 1952 الخط وقفًا إسلاميًا ومؤسّسة عامة ذات شخصية اعتبارية واستقلال مالي. وقد انسجم هذا الخيار مع الدستور الأردني الصادر مطلع العام نفسه، الذي نصّت مادته (107) على تنظيم شؤون الأوقاف بقانون خاص.
في عمّان، يمكن اعتبار استقرار الشركس على ضفاف السيل منذ عام 1878 عاملًا مُساعِدًا في ترجيح موضع محطة عمّان، لكن قرار إنشائها عام 1904 خضع أساسًا لمعايير هندسية وتشغيلية، مثل احترام المسار والميول الطبوغرافية، وتوافر مصادر المياه للقاطرات، وتباعد المحطات لأغراض الخدمة والحماية. لذلك يُعدّ وجود التجمع الشركسي ميزة مكانية داعمة وليست السبب الحاسم للاختيار.
يضمّ المقطع الأردني من الخط، والذي يبلغ طوله نحو 436  كيلومترًا، 26  محطة تاريخية، من أبرزها: عمّان، الجيزة، القصر، الضبعة، اللبن، الزرقاء، السَّمرا، القطرانة، ومعان. وثلاثٌ من هذه المحطات باتت داخل التكتّل الحضري عمّان–الزرقاء–الجيزة. هنا يبرز السؤال: ألم يكن ممكنًا تحويل الحرم القائم إلى نقل حضري سككي بقطار خفيف، لاسيما أن قياس السكة (1.05 م) يتيح ذلك فنيًا؟
تُجادل هذه المقالة بأن مخطط عمّان لعام 1955 الذي أعدّه خبير الأمم المتحدة G. W. King  وحرّره وأقرّه المخطّط البريطاني ماكس لوك، فوّت فرصة مبكرة لاستثمار ممر ومحطات الخط الحجازي كعمود فقري للنقل الحضري بين عمّان والزرقاء والجيزة. لقد انصرف التوجّه إلى تراتبية الطرق ورفع الحركة إلى المناسيب العلوية وترك المنسوب الأرضي للمساحات الخضراء، فيما أُهملت المحطات القائمة كأساس لنظام سككي كان سيُرسّم ملامح مدينةٍ أكثر عصرية لو قُيِّض له التنفيذ. وتكرّس إهدار الفرصة لاحقًا مع إعلان وإعتماد الخطة التنموية الشاملة لعمّان الكبرى 1987 (دار الهندسة) التي رسّخت الهيمنة الأسفلتية دون إعتماد نقلٍ حضري سككي حضري صريح، ثم جاء مخطط عمّان الشمولي 2007 ليُهمِل خيار القطار الخفيف ويُوصي بالباص السريع والتكثيف على المحاور نفسها التي اعتمدت كطرق شريانية، مما فاقم التعدّيات على المسار وعمّق تجزؤ الحوكمة ورفع كلفة العودة، ولو كانت متأخرة، للخيار السككي وحتى عندما عادت المقترحات مثل مشروع القطار الخفيف بين الزرقاء وعمّان، ثم العطاء الأحدث لوصلة خفيفة إلى مطار الملكة علياء الدول فقد جاءت مجتزأة بدون تنسيق مع خطط أمانة عمّان الكبرى للنقل والمرور.
مع ذلك، أزعم أن خيار استثمار حرم ومحطات الخط الحديدي الحجازي ما زال ممكن فنيًا وتشريعيًا. فبرغم أفضلية القياس المعياري 1.435 م عالميًا، فإنه يمكن تشغيل خدمة نقل ركاب حضرية فعّالة على قياس 1.05 م بعد حزمة تهيئة هندسية وتشغيلية مثل تحسين القضبان والعتبات والكسر الحجري، وضبط المنحنيات والميول، وتحييد التقاطعات المستوية الحرجة، وتحديث الإشارات وأنظمة السلامة. أما تشريعيًا، يُتيح قانون 1952 صيغ التشغيل والانتفاع والاستثمار دون نقل ملكية العين الوقفية، وهو إطار ملائم لنماذج الشراكة مع القطاع الخاص.
في سياقٍ متصل، أعلن دولة رئيس الوزراء من العقبة في 27 أيلول/سبتمبر 2025 عن سكة حديد وطنية تربط مواقع التعدين (فوسفات الشيدية وبوتاس غور الصافي) بميناء العقبة، مع قابلية التوسع شمالًا إلى معان (في حال إنشاء الميناء البري الذي عملت على إعداد الماستربلان له بالتعاون مع دار العمران للبنية التحتية في العام 2017) حتى الماضونة.  المشروع المُعلَن موجّهٌ أساسًا إلى نقل البضائع وعلى قياسٍ أوسع من 1.05 م، ولم يُذكر فيه نقل الركاب. هذا التوجّه مفهوم اقتصاديًا، لكنه يُعيد خطر تكرار «الإغفال السككي» إذا لم يتم تبني خدمة الركاب منذ اليوم داخل وثائق المشروع.
إن خدمة الصناعات التعدينية بسكة حديد عصرية تقلل من استهلاك الطرق وترفع كفاءة النقل وهذا أمر محمود، لاسيما وان الدولة لن تتحمل الكلف الرأسمالية اللازمة لإنشاء الخطوط، ولكنها فرصة سانحة للإستفادة من البنية التحتية والتشريعية التي يوفرها الخط الحديدي الحجازي، وشركة العقبة للسكك الحديدية التي تدار بموجب قانون السكك الحديدية لسنة 2012 .
حتى بعد إعلان العقبة، ما زال ملف السكك الحديدية بالأردن غامض، فهل لدى الحكومة رؤية لتوحيد الكيانات المختلفة، أم سيتم إضافة كيان جديد من خلال الشركة الإماراتية/ شركة الاتحاد للقطارات لنقل الفوسفات من مناجم الشيدية، والبوتاس من غور الصافي لميناء العقبة. 
صحيح أن هذا الترتيب ينسجم مع استراتيجية النقل (2024-2028) لتحويل الشحن الثقيل إلى السكك الحديدية، وخفض كلف التجارة والانبعاثات وتعزيز العبور، إلا أن الاستراتيجية ذاتها تستثني النقل السككي للركاب، وهذا يخالف الممارسات العالمية بالسماح بالنقل المختلط للبضائع والركاب. 
قد يكون النموذج المدمج هو الأنسب للأردن بتأسيس شركة سكة وطنية قابضة تضم شركات تابعة مثل شركة للبنية التحتية، وشركة للشحن الثقيل، وشركة مستقبلية للركاب. هذا النموذج قريب من نموذج الخطوط الحديدية السعودية SAR وهي شبكة مختلطة لنقل البضائع والركاب. وبالمناسبة، فإن السعودية قد اكملت شبكتها حتى الحديثة/ القريات المقابلة للعمري على بالأراضي الأردنية كتهيئة للربط المستقبلي عند جهوزية الجانب الأردني بما يمكنها للوصل لأوروبا من خلال سورية وتركيا. 
وهناك النموذج التركي المعتمد على مالك واحد للبنية التحتية عبر كيان وطني أو صندوق سيادي ومشغلون متعددون لخطوط محددة مثل الشيدية- العقبة، وغور الصافي العقبة بالشراكة مع Etihad ومشغل للخط الحديدي الحجازي ومشغل آخر لسكة حديد العقبة، مع إبقاء الباب مفتوح للإستثمار بالنقل السككي للركاب لخطوط الزرقاء- مطار الملكة علياء، أو حتى تسيير القطار الخفيف على مسارات محددة بالمدن الأردنية. 
الخوف من أن يحد ما تم الإعلان عنه بالعقبة، من مرونة المُخطط الأردني في حال قرر استكمال الربط مع الدول المجاورة من خلال أي من النماذج السائدة في التملك والتشغيل.

مواضيع قد تعجبك