*
الخميس: 11 ديسمبر 2025
  • 24 أيلول 2025
  • 22:21
كلنا ننصح  ولا أحد يُلهم
الكاتب: د. أحلام ناصر

خبرني - في زمن امتلأت فيه الشاشات بالنصح والإرشاد، غرقنا في طوفان من المواعظ والمثاليات التي تطال كل تفاصيل حياتنا، من الحب والزواج والعلاقات بمختلف أشكالها، إلى النجاح والسعادة، وصولًا إلى الدين والأخلاق والتسامح، كلٌ يدلي بدلوه على منصات التواصل الاجتماعي، فنرى من يتحول بين ليلة وضحاها إلى داعية، أو مدرب حياة، أو محلل اجتماعي او اقتصادي. إنه عصر التوجيه الرقمي وعصر الوصول السهل إلى المعلومة، لكن المدهش أن المجتمع لا يتغير، بل إن أزماته تتفاقم! وهنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا لا تترك كل هذه النصائح أثرًا حقيقيًا؟
الحقيقة أن النصيحة اليوم لم تعد التزامًا أخلاقيًا أو انعكاسًا لتجربة صادقة، بل تحولت في كثير من الأحيان إلى عرض استعراضي، كثيرون ممن يتصدرون مشهد النصح يعيشون حياة مناقضة تمامًا لما يعلنون، يحدثك أحدهم عن البساطة بينما يطل عليك في صور مغمورة بالرفاهية، وآخر ينادي بالسعادة وهو غالبا غارق في الاكتئاب، عند هذه النقطة يفقد الكلام قيمته، لأن كلمة بلا صدق ولا تجربة ليست سوى ضوضاء عابرة بلا أثر.
ويكشف علم النفس جانبًا من هذه الظاهرة عبر مفهوم الترخيص الأخلاقي، حيث يشعر الإنسان بعد أن يقدم نصيحة أو يتقمص دور الناصح والمرشد بأنه قد أدى واجبه الأخلاقي، فيمنح نفسه لاحقًا فسحة لارتكاب التناقضات من دون  ضميره الاحساس بتانيب الضمير، ويضاف إلى ذلك الإدراك الانتقائي، إذ يسعى الفرد إلى إبراز صورة مثالية أمام الآخرين حتى وإن لم تكن حقيقية. وهكذا تتحول الكلمات الملهمة والمقاطع الارشادية إلى وسيلة لتمثيل دور الفضيلة واكتساب المال والشهرة في زمن الإعلام الرقمي، أكثر مما هي انعكاس صادق لحياة تُعاش.
غير أن الناس لا تتغير بالكلام، بل بالفعل، فالطفل يتعلم الصدق من أبٍ صادق لا من خطبة مطولة، والشاب يترك سلوكًا ضارًا حين يواجه قدوة حقيقية أمامه، لا حين يستمع إلى جملة عابرة على إنستغرام. المجتمع لا يحتاج إلى مزيد من الكلام، بل إلى أشخاص يطبقون ما يقولون ويجسدون القيم التي ينادون بها.
لم يعد خافيًا أن النصح في فضاء السوشال ميديا تحول إلى صناعة قائمة بذاتها؛ يتم تقديم محتوى في مختلف المجالات الحياتية لا طلبًا للإصلاح والتطوير المجتمعي بقدر ما هو بحث عن المشاهدات وجني الاموال. وليس في الكسب بحد ذاته مشكلة، لكن الخطورة تكمن حين تُختزل النصيحة في صورة سلعة فاقدة لجوهرها، تُساق لجذب التفاعل أكثر مما تُوجَّه لإحداث تغيير حقيقي.
فالسؤال ليس في التوقف عن النصح والتوجيه، بل في مراجعة جوهره ومعناه، فقبل أن نشير إلى أخطاء الآخرين، نحن بحاجة إلى وقفة مع الذات، هل نعيش حقًا ما نردد؟ هل نقصد الإصلاح والتوجيه أم نبحث عن بريق الشهرة والمال؟ وهل نملك شجاعة الاعتراف بزلاتنا قبل أن نكشف عثرات غيرنا؟ عندها فقط يصبح للكلمة أثر، إذ لا تنهض المجتمعات بسحر الكلمات، بل بقوة القدوة التي تغني عن ألف خطاب.
ختاما: لو أن كل من يقدّم نصيحة أو يرفع شعاراً أو يفسّر قضية على شاشات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، بدأ بتطبيق ما يقوله على نفسه ومن حوله أولًا، لشهدنا ملامح مجتمع أكثر وعيًا ونضجًا. فالتغيير لا يولد من الكلمات وحدها، بل من القدوة التي تمنح للكلمة روحها وللمعنى صدقه، وما عدا ذلك يظل ضجيجًا عابرًا وصدى يتلاشى في الفراغ.

مواضيع قد تعجبك