خبرني - في زمنٍ تغيّر فيه شكل المعرفة، وانقلبت فيه المعايير، لم تعد القراءة كما عرفناها بابًا للفهم، ولا الكتاب نافذةً للعقل. نحن اليوم في عالمٍ تحوّلت فيه أمة "اقرأ" إلى أمة "تفرّج"، وتحوّل فيه النص العميق إلى شذراتٍ سطحية، وتحوّل القارئ المتأمّل إلى متلقٍّ مستعجل، يمرّ على المعلومة كما يمرّ المتسوّق على رفوف السوبرماركت... يختار ما يلمع، لا ما يُغذّي.
لقد أصبحت الصورة تسحر، وتُغني عن ألف كلمة، لكنها – في كثير من الأحيان – تُغني عن الفكرة وتطمس المعنى. في هذا العصر، يُصنع الرأي العام من مقاطع قصيرة، وبرقيات مُنمّقة؛ بعضها يحمل قيمة، وأكثرها خالٍ من الدسم، وإن حمل شيئًا، فهو السمّ الزعاف في قالب جذّاب.
أصحاب المنصات، المؤثرون الجدد، صاروا هم من يشكّلون المزاج العام، ويوجهون الانتباه، وأحيانًا يُعيدون تعريف مفاهيم كاملة. تراهم يطرحون مسائل التربية، والدين، والسياسة، والاقتصاد في أقل من دقيقة، ويظنّ المتابع أنه فهم! كيف لفكرة أن تُروى وتُهضم وتُفهم في ثلاثين ثانية؟ هذه ليست معرفة، بل إدمان استهلاك معرفي سطحي، يزيد الإنسان جهلًا وهو يظنّ أنه تعلّم.
التربويون يرفعون أصواتهم محذّرين: "لقد أدخلتم الدب إلى المزرعة"، وحقّ لهم أن يقولوا ذلك؛ فالمنصات الرقمية – رغم ما فيها من خير – تُركت بلا ضوابط، فعبثت بالعقول كما يعبث الدب بمزرعة خالية من الحُرّاس. صرنا أمام أطفال يربّيهم "الترند"، وأجيالٍ تقيس قيمة الإنسان بعدد المتابعين، لا بما يُقدّم.
الشكوى وحدها لا تكفي، والنقد – مهما كان صادقًا – لا يصنع بديلًا. نحن بحاجة إلى محتوى ناضج منافس، وإلى جيل رقمي يملك الوعي النقدي؛ لا يرفض التقنية، بل يُحسن استخدامها. نحتاج إلى حضور تربوي واعٍ في الساحة، وإلى إعادة هيبة القراءة، ولكن بصياغة جديدة تناسب العصر: كتبٌ مسموعة، ومقاطع تحليلية قصيرة، ومساحات نقاش تُعيد للمعرفة جاذبيتها.
لسنا في معركة خاسرة، لكننا تأخّرنا عن الركب، وآن لنا أن نلحق، بعقولٍ واعية، ومحتوى راقٍ، وإيمانٍ عميق بأن الكلمة لا تزال تُغيّر العالم... حتى لو كانت برقية، إن كُتبت بعقل، وخرجت من قلب.
ورحم الله المفكر الأردني الكبير إبراهيم العجلوني، الذي كان يسعى جاهدًا لتكوين مجموعة من الشباب الأردني الواعد تقرأ، وتحلل، وتناقش، وتكون نواة للفكر المفكّر في كل محافظات الوطن. ولكن هذا المشروع الفكري الثقافي لم يجد جهة رسمية أو شعبية تتبناه، فمات المشروع(النخب المفكرة من الشباب ) كاملًا يوم أن توفّاه الله. كان مفكرًا سابق عصره.
لروحه الرحمة والمغفرة، والفردوس الأعلى.




