خبرني - في زحمة المدينة، لا يلتفت أحد إلى تلك القطعة المعدنية الزرقاء المثبّتة على سور عمارة، أو جدار باهتٍ في شارع قديم.
لوحةٌ لا تُقرأ، ولا تُرى إلا بمحض الصدفة، وكأنها بقايا أثر منسيّ، أو علامة بقيت شاهدةً على زمنٍ كانت فيه المدن تعرف نفسها بنفسها.
لكن، وعلى الرغم من بساطتها الظاهرة، فإن هذه اللوحة الصغيرة قد تعني الفرق بين الحياة والموت.
اللوحة الزرقاء التي كثيرًا ما نمرّ بها دون اكتراث، ليست مجرد ديكور بلدي، ولا مظهرًا تجميليًا في التنظيم المدني؛ إنها العنوان، والبوصلة، والدليل.
هي الرقم الذي تستدل به سيارة الإسعاف في لحظة طارئة، حين تتسابق الثواني لإنقاذ مريض.
هي الاسم الذي تكتبه على الطرد ليصل إلى بيتك، وهي العلامة التي يهتدي بها رجل الدفاع المدني وهو يواجه لهبًا لا يرحم.
هي الكلمة التي يبحث عنها عامل التوصيل وهو يتنقل بين الأزقة، وهي الرابط الذي يصل المواطن بالمكان، والإنسان بالحياة.
لكن، أين هي هذه اللوحة الآن؟ في كثير من شوارع عمّان، باتت اللوحات مجرد إطارات حديدية باهتة، ممسوحة الملامح، متآكلة الزوايا، مشوّهة بالألوان أو العبارات العشوائية. بعضها سقط، وبعضها الآخر مُزِّق أو طُلي بدهان عبثيّ، بلا رقيب ولا حسيب. المشهد لا يعكس فقط إهمالاً في الصيانة، بل يكشف عن ضعف في إدراك أهمية هذه التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفارق الكبير.
اللوحة الزرقاء ليست ترفًا بصريًا، بل ضرورة تنظيمية وأمنية، بل قد تكون شريان حياة.
فحين تضيع سيارة إسعاف بين الأزقة بسبب غياب رقم واضح على العمارة، أو تصل متأخرة إلى بيت لا يحمل اسم شارع أو حيّ، فإن الأمر لا يكون بسيطًا كما نعتقد. هو خلل في نظام المدينة، ونقطة ضعف لا تغتفر.
الأمانة مسؤولة، والمواطن كذلك.
فمن واجب الجهة المعنية أن تُحدّث هذه اللوحات، وتتابع صيانتها، وتضع العقوبات الرادعة بحق من يعبث بها.
كما أن من واجبنا، كمواطنين، أن نحمي هذه العلامات كما نحمي بيوتنا، فهي امتداد لهويتنا وسلامتنا ومظهر مدينتنا.
لا نطلب معجزة، بل صيانة دورية، وطلاء مقاومًا للعوامل الجوية، وحضورًا بصريًا واضحًا لا يترك مجالًا للبس أو الضياع.
إن مدينة لا تُعرّف شوارعها، لا يمكنها أن تعرف مواطنيها.
والمدينة التي تفقد أسماء أحيائها، تفقد جزءًا من روحها.
اللوحة الزرقاء قد لا تعني لك شيئًا الآن، لكنك ستتذكّرها في لحظة طارئة، أو عند احتياج عاجل، أو ربما حين تضل الطريق في مدينتك نفسها.
فلنحمِ هذه العلامة، ولنُعد لها مكانتها التي تستحق.
فاللوحة الزرقاء، في حقيقتها، ليست مجرد رقم أو اسم، بل هي بداية الطريق... وقد تكون طوق النجاة..




