خبرني - ها هو العمر يمضي والايام تمضى ولا تبقى سوى الذكرى .. هناك البيت والحارة ... ورائحة الياسمين الدمشقي ... وبيوت تملؤها المحبة والألفة ... والضحكات وعبق الذكريات .. بيوت تسكنها تعابير الفرح ... هنا الصوفة الملونة بألوان الربيع ومخداتها الجميلة الأسطوانية والتي استوطنتها قسمات المرح بصوت جدتي وأمي وعلى طفطاف البرندة المطلة على الشارع تنكات من الزريعة تتلون كل ربيع هنا كانت تتجمع نساء الحارة في زيارة صباحية على فنجان قهوة وسواليف ... هذا البيت ولدنا فيه ... لعبنا في ارجائه ...رسمناه بدواخلنا ... كل زاوية به يضم أحلى الذكريات .... هنا الراديو الكبير ذو المؤشر القماشي موضوع عند زاوية الصالون مزين بشرشف أبيض ومزهرية برتقالية بها وردات ربيعية من الورد البلدي ذو اللون الزهري .. وعلى اليمين ماكنة الخياطة اليدوية سنجر ولها غطاء خشبي وصوت الدرز يمحو رتابة الصمت ومازال وجه أمي يطل بمخيلتي وهي تلظم أبرة الماكنة لتخيط ثيابنا . كان مطبخنا مول صغير يحوي كل المونة من رب البندورة المصنوع يدوياً ومرطبنات التتطالي . والمخلالات , والمقاديس من زيتون وباذنجان ومجادل البصل والثوم ومرطباتات اللبنة المدحبرة والحبنة البيضاء والسمن البلدي والكشك والبرغل والجميد وعناقيد الباميا الحمراء ووو كلها تعبق برائحة ذكرى وحنين . بيتنا الصغير شهد ولادتي ومدرستي وصوت أمي توقظني للذهاب الى المدرسة ومن بيتي نبتت احلامي ونمت ومن سطح بيتنا تعلمت علم الفلك حين كنت أفترش السطح بفرشة الصوف وبصمت الليل أعد النجوم واعرف اسماء الكواكب من المشتري إلى زحل ، والمريخ أناجي القمر واحتضن راديو الترانزستر. واسمع لسيدة الشرق قابلني والأشواق بعينه سلم وخذ أيدي بأيده وغداً ألقاك يا خوفي فؤادي من غدي وحيرت قلبي معاك وأنا بداري وخبي ... الله يا زمان الماضي ما أروعك .بيتنا الجميل الحلو تغبر وتلك الدالية والتي كانت تصل على معرش وصلت الطابق الثاني هوت كأنها تعلن زعلها يوم الرحيل وتلك الياسمينة ذبلت وحتى الملوخية صارت بلا طعم يوم صارت تباع بأكياس بلاستيكة مفروطة ليس فيها روح الحارة ونساء وهن يجتمعن على عتبات البيوت يلقطن الملوخية والبامية ويسمعن اذاعة عمان وصوت كوثر النشاشيبي ما يطلبه المستمعون .
كلهم ذهبوا إلى دار الحق ولكن الذكرى تبقى لترسلنا لزمن كان أحلى وأجمل وأروع .




