*
السبت: 06 ديسمبر 2025
  • 05 أيلول 2025
  • 20:40
الكاتب: الدكتور زيد أحمد المحيسن

خبرني - منذ اللحظة الأولى التي خرجت فيها اللامركزية من تحت قبة البرلمان الأردني، كانت وكأنها وُلدت ميتة، لا حراك فيها، ولا أثر يُذكر في وجدان المواطن أو في منظومة الإدارة المحلية. لا لقصور في الفكرة، بل لقصور في الإرادة، والتطبيق، والنية الصادقة لإعطاء هذا المشروع ما يستحقه من رعاية سياسية وتشريعية وإدارية. وهنا يبرز سؤال جوهري: هل اللامركزية ضرورة وطنية دستورية؟ أم أنها ترف إداري لا طائل منه؟
الجواب، من حيث المبدأ والواقع، واضح لكل ذي بصيرة: اللامركزية ليست ترفًا إداريًا، بل هي ركن من أركان الحوكمة الرشيدة، وأداة تنموية، ورافعة سياسية، وجسر عبور نحو الديمقراطية الحقيقية والمواطنة الفاعلة.
اللامركزية، ببساطة، هي نقل الصلاحيات من المركز إلى الأطراف، من العاصمة إلى المحافظات، من القرارات الفوقية إلى الإرادة الشعبية المحلية. هي أن يُمنح المواطن في الكرك والطفيلة والمفرق وإربد حقًّا حقيقيًا في تحديد أولوياته، ورسم مسار تنميته، والمشاركة في قرار يؤثر على حياته اليومية.
في الأردن، حيث نعاني من تركز السلطة والقرار في العاصمة، بات من الملحّ أن نعيد توزيع السلطة و القوة والموارد والمسؤولية. فالمجتمعات لا تُبنى من الأعلى إلى الأسفل، بل من الجذور، من القواعد، من الناس أنفسهم. واللامركزية هي الإطار الذي يسمح لهذا البناء التشاركي أن يتحقق.
إن اختزال اللامركزية في بعدها الخدمي خطأ جسيم. فهي ليست مجرد وسيلة لتسريع تعبيد شارع هنا أو بناء مدرسة هناك. إنها أداة تنموية متكاملة، تتيح للمجتمعات تحديد أولوياتها وفق خصوصياتها. فالطفيلة ليست عمان، ومعان ليست الزرقاء. لكل محافظة احتياجاتها، وإمكاناتها، وتحدياتها. ومن الظلم أن تُحكم جميعها بعقل واحد، من مكتب واحد، بميزانية واحدة، وبمعايير لا تراعي الفروق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
أما سياسيًا، فإن اللامركزية هي مختبر للديمقراطية المحلية. فمن يشارك في القرار المحلي اليوم، يصبح أكثر قدرة واستعدادًا للمشاركة الوطنية غدًا. ومن يتعلّم مساءلة ممثله في المجلس المحلي، سيتقن لاحقًا آليات الرقابة على البرلمان والحكومة.
لقد جاءت اللامركزية إلى الحياة مشوهة: بلا صلاحيات حقيقية، بلا موارد مالية مستقلة، بلا إدارات مؤهلة، وبلا إرادة سياسية داعمة. كانت أقرب إلى لافتة إصلاحية تُرفع في المحافل، من كونها مشروعًا وطنيًا حقيقيًا. والأدهى، أن ثقافة المركز ما زالت ترفض التنازل، وما زالت تعتبر نقل الصلاحيات تهديدًا، لا شراكة.
إذا كنا حقًا نؤمن بالدستور الأردني وبمبدأ فصل السلطات والمشاركة الشعبية، فإن اللامركزية ليست خيارًا، بل استحقاقًا دستوريًا وطنيًا. لا يمكن بناء مجتمع ديمقراطي إذا استمر المواطن في الأطراف يشعر بأنه مجرد رقم ضريبي و متلقٍ للقرارات لا شريك فيها. ولا يمكن الحديث عن "مواطنة فاعلة" إذا لم نفتح أبواب المشاركة في صنع القرار وتوزيع الموارد والرقابة المحلية
المطلوب الآن
ما نحتاجه اليوم ليس إلغاء اللامركزية ولا الالتفاف عليها، بل إعادة إطلاقها من جديد، بروح إصلاحية حقيقية، وبخطوات عملية تشمل:
تعديل التشريعات بما يمنح المجالس المحلية صلاحيات حقيقية.
تخصيص موازنات مستقلة قابلة للتخطيط والتنفيذ محليًا.
تدريب الكوادر المحلية على التخطيط، والتنمية، وإدارة الموارد.
نشر ثقافة اللامركزية في المجتمع، وخلق وعي عام بدورها التنموي والسياسي.
اللامركزية يا سادة ، ليست طرفًا في نقاش إداري، بل جوهر الإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي. إنها الممر الإجباري نحو وطن يتسع للجميع، ويشارك فيه الجميع، ويصنعه الجميع. وإن أردنا أن نبني دولة حديثة، ديمقراطية، عادلة، فإن اللامركزية لا بد أن تكون حجر الأساس فيها بل تكون الاس والمقام في البناء البنيوي للدولة .
وإلا، فسنظل ندور في ذات الحلقة المفرغة: مركز يُقرّر، وأطراف تنتظر... ومواطنون يتساءلون: إلى متى؟ اللهم اشهد فأني  قد بلغت وهذا اضعف الايمان .

مواضيع قد تعجبك