*
الاحد: 28 ديسمبر 2025
  • 03 أيلول 2025
  • 15:17
جامعات المنافقين ومسارح الأراجوزات
الكاتب: أ. د. بسام الشخريت

خبرني - - حين يصبح المهرِّجُ نجماً ويُقصى العالِم إلى الصفوف الخلفية

 

يُفترض بالجامعات أن تكون المعاقل الحصينة للعلم، والمصانع الحقيقية للعقول، والمختبرات الكبرى التي تُنقِّي المعرفة من شوائب الجهل. غير أنّ الواقع الذي نشهده اليوم في كثير من جامعاتنا، الحكومية منها والخاصة، لا يبعثُ إلا على الأسى. 
لقد تحوَّلَت الجامعات من منابرٍ للمعرفة إلى مسارحٍ للرِّياء، ومن فضاءاتٍ للإبداع إلى ساحاتٍ للتملق. فالمعيار لم يعد الكفاءة ولا البحث ولا جودة التدريس، بل قدرة الفرد على ممارسة "التمثيل الأكاديمي" وإجادة دور المهرج الذي يُضحِك الرئيس ويُطرِب العميد.

الأستاذ الباحث الذي يقضي ليله في قراءةٍ وتحليلٍ، والذي يُنسِج محاضراته كقصيدةٍ من نور، بات يُعامَلُ وكأنه قطعةُ أثاثٍ قديمة: يُستحضَرُ اسمه في التقارير، وتُستعرَضُ إنجازاته في المؤتمرات، ثم يُركن جانباً. 
أما زملاؤه "المتسلِّقون" و"المتملِّقون"، فقد صاروا نجوماً فوق المنصة، يتفنّنون في فنون الإنحناء ولَعْقِ الأحذية، ويجعلون من اللسانِ المدهونِ وسيلةً للارتقاء، ومن التصفيق وسيلةً للترقِّي.

الكرسي – ذلك الخشب المدهون – لم يعد مجرد أداةٍ للجلوس، بل تحول إلى كعبةٍ صغيرةٍ يطوف حولها الطامعون. تُقدَّم عنده القرابين من عباراتِ المديح الجوفاء، وتُشعَلُ حوله بُخُور الولاء. 

فالمناصب لا تُمنح للأكفأ، بل للأكثر قدرة على مجاملةِ غرور الرئيس. والأبحاث لا تُقاسُ بصرامتها المنهجية أو إسهامها العلمي، بل بمدى قدرتها على تلميع صورة المسؤول أو تعزيز سلطانه.

والمفارقة الكبرى أن الجامعات، التي يُفترض بها أن تُخرِّج قادة المستقبل، باتت تُعيد إنتاجَ ثقافةِ الخُنوع. 

الطالب يتعلّمُ درساً غير مكتوب: أن النجاح لا يحتاج إلى عقلٍ مُتَّقِد، بل إلى لسانٍ بارعٍ في العزفِ على أوتارِ الرِّياء. وهكذا، بدَلَ أن نُنشئ جيلاً من العلماء والمفكرين، نصنع جيلاً من المصفِّقين والباحثين عن رضا الكراسي.

إنه مشهد كاريكاتوري ، مضحك/مبكٍ في آن واحد: موظفٌ يتقوَّسُ ظَهرُه حتى تكاد تنخلعُ فقراته من كثرةِ الانحناء، أستاذٌ يحوِّل قلَمَه من أداةٍ للمعرفة إلى فُرشاةٍ لتلميعِ صور المسؤولين، عميدٌ يتعاملُ مع منصبه كمائدةٍ تُوزَّع عليها الغنائم، ورئيسُ جامعةٍ لا يشبع من التطبيل والتصفيق. وكل ذلك يجري تحت لافتةِ "المؤسسة الأكاديمية" التي لم يبقَ منها سوى الاسم.

هذه ليست استثناءات عابرة، بل هي ثقافة مترسِّخة تتغذى على الفساد الإداري وغياب المساءلة. 
ثقافةٌ تضع المبدع في الصفوف الخلفية وتقدِّم المهرج في الصفوف الأمامية. ثقافةٌ تُقصِي الصادقَ لأنه يزعجُ بصراحته، وتُكرِّم المنافق لأنه يلمِّعُ بلسانه.

والأخطر من ذلك أن هذه الممارسات لا تقتل فقط الإبداع الفردي، بل تدمِّر المستقبل الجماعي. 
فأمةٌ لا تحترم عِلمَها ولا تكرِّم مبدعيها، إنما تفتحُ أبوابها مُشرَّعةً للتراجع والانحدار. 
أمةٌ تُقدِّس الكرسي وتلعن الكفاءة، لا يمكن أن تبني حضارةً ولا أن تُنجزَ نهضة.

إنها كوميديا سوداء بكل ما تحمله الكلمة من معنى: رؤساء غارقون في نرجسيتهم، عمداء مشغولون بجيوبهم أكثر من عقول طلابهم، أساتذة يتبارون في تقديم عروض بهلوانية بدل إنتاج معرفة حقيقية، وطلاب يتخرجون وهم يحملون درساً مُرعباً: أن الطريق إلى القمة لا يُعبَّد بالجد والاجتهاد، بل بالتطبيل والولاء.

والحقيقة المُرَّة: جامعة لا تكرِّم مبدعيها، ستحتفي غداً بخيبةِ جيلٍ كامل، لأن الأراجوز مهما صفَّقَ وضَحِكَ، لا يبني أمة.

كفى نفاقاً ... 
الجامعاتُ ليست مسارحَ للتصفيق، بل مصانعَ للعلم. 
وحين يُصبح المهرِّجُ بديلاً عن العالِمْ، فأبشروا بأمَّةٍ تُصفِّق لخرابها!

مواضيع قد تعجبك