*
السبت: 06 ديسمبر 2025
  • 30 أغسطس 2025
  • 20:02
الكاتب: د. ميساء المصري

خبرني - في علم سياسة الحيل ، أثبت النتن ياهو أن الرهان على خرق اللياقة السياسية هو التكتيك الأكثر «صواباً» سياسياً في وقتنا . ويمكننا اليوم أن نتساءل بلا تردد: ما هو الصائب سياسياً والأكثر لياقة ؟ بعد زخم التصريحات الإسرائيلية والأمريكية البعيدة جداً عن الصواب السياسي والأخلاقي والإنساني لإختلاق الأزمات السياسية.
ففي ظل زخم التصريحات الإسرائيلية – والأمريكية بصيغتها المتساهلة – لم نعد أمام زلات لسان أو تجاوزات فردية، بل أمام منظومة متكاملة تهدف إلى نزع المشروعية عن الآخر، وخلق الأزمات بوصفها أدوات تفاوض. لقد تحولت اللياقة السياسية إلى عبء على من يلتزم بها، في حين أصبحت الوقاحة الممنهجة أداة متقدمة في معركة السيطرة على السردية، وفرض الخرائط، وهندسة المصير.
أتحدث هنا عن التصريحات الصهيونية النارية التي تستهدف الأردن بشكل شرس و مباشر، وتتجاوز الأطر التقليدية للتصريحات العدائية إلى تبنٍ صريح لفكرة "إسرائيل الكبرى"، ضمن الخطاب التحريضي المتراكم، منذ ان صرح وزير الإعلام الإسرائيلي شلومو كارهي بأن وصاية الأردن في  القدس لم تعد مقبولة، وأن الأردن لم يعد يملك وزنًا إقليميًا، مصرحا بلهجة استعلائية أن زمن "الدور الأردني" انتهى. أما اللواء غيورا آيلاند، المستشار الأمني السابق، فقد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حين قال في لقاء تلفزيوني إن غزة يجب أن تُفرغ من سكانها، وإن الأردن وسيناء هما الاتجاهان الطبيعيان لذلك، وإن لم يكن الأمر طوعًا فليكن تحت الضغط، وهو تصريح يعكس رؤية قديمة جديدة وصلت حد إعلان اسرائيل الكبرى لتضع المملكة في صميم الخطر الوجودي لا السياسي فقط. 
و هذه التصريحات لا تأتي كتجاوزات اعتباطية  أو مواقف فردية، بل تعكس انسجامًا داخليًا عميقًا في أروقة الحكم الإسرائيلي، حيث بات أقصى اليمين الصهيوني متطابقًا في الرؤية والأفكار، ومتصاعدًا  ، فهي بلا تشكيك رسائل واضحة إلى عمّان، مفادها أن الحدود التي رسمتها اتفاقية وادي عربة لم تعد مقدسة في نظر تل أبيب، وأن السيادة الأردنية نفسها أصبحت على الطاولة، في ظل رؤية إسرائيلية إمبريالية ترى في الأردن الحاجز الأخير أمام تحقيق مشروعها الاستيطاني التوراتي المزعوم الذين يسعون لتصديقه..
تصريحات نتنياهو ووزراءه المتكررة حول الأردن لم تعد مجرد أدوات انتخابية أو شعبوية كما يعتقد بعضكم ، بل أصبحت جزءًا دائمًا من الخطاب الرسمي والذي يجب ادراك ماهيته، و انتقال الموضوع من تكتيك سياسي إلى توجه استراتيجي مدروس. 
وفي الوقت ذاته، يشكل وجود ترامب في المشهد الدولي وموقفه المتراخي إزاء سياسات الضم الإسرائيلية مصدر قلق عميق لصانعي القرار في عمان، خاصة في ظل احتمالات إعلان ضم الضفة الغربية في زيارته المقبلة الى تل ابيب في سبتمبر/أيلول، وسط صمت دولي يفتقر لأدوات ردع فعالة، ما يجعل الأردن يواجه مشاريع توسعية إسرائيلية مدعومة أمريكيًا أو متسامح معها على أقل تقدير. بل حتى ان حكومة نتنياهو الحالية تضم أطيافًا يمينية ودينية متطرفة لا تعتبر الأردن مجرد جار، بل جزءًا من "أرض الميعاد"، ما يفسر الدعوات العلنية لهدم الأقصى وبناء "الهيكل الثالث" في انتهاك صريح للوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس.
أما المخاطر المتصاعدة على الأردن فتتجلى في زعزعة الداخل عبر حصار غير معلن، حيث تتحكم إسرائيل بمفاتيح استراتيجية تؤثر على أمن الأردن الحيوي كالمياه والغاز، وتفرض ضغوطًا مستترة على القرار الأردني، ما يقلص قدرة عمان على المناورة السياسية. و هناك التهديد الأمني المباشر وغير المركزي عبر محاولات تهريب السلاح والمخدرات ، والخوف من نقل الإشتباك إلى الداخل الأردني، سواء من خصوم إسرائيل أو من أدوات فوضى تابعة لها. ولا نغفل التحول في الخطة الإسرائيلية من السيطرة على الأرض إلى تفريغها ديموغرافيًا تمهيدًا للضغط على الأردن وأخيرًا، تقويض وكالة الأونروا، التي تلعب دورًا حيويًا في استقرار الأردن الإجتماعي باعتبارها أكبر مشغل غير حكومي يخدم أكثر من مليوني لاجئ فلسطيني.
ولنقف هنا مطولا عند ردود الفعل الأردنية الرسمية، رغم مشروعيتها القانونية والأخلاقية، لم تعد كافية في مواجهة هذا الخطر الوجودي، لذا يجب تبني استراتيجية هجومية ذكية تشمل تدويل الملف الأردني-الإسرائيلي باعتباره قضية أمن قومي إقليمي، ونقل النقاش إلى المحافل الدولية باعتباره تهديدًا للأمن الجماعي وليس مجرد خلاف ثنائي. كما يجب إعادة ضبط العلاقة مع إسرائيل جذريًا عبر تجميد التعاون في مجالات متعددة. وتسريع مشاريع بديلة كتحلية المياه والطاقة لتقليل الإعتماد. بالإضافة إلى ذلك، يتعين بناء تحالف عربي-دولي داعم لخطوط الأردن الحمراء من خلال تحالف ثلاثي بين الأردن ودول الجوار والدول الخليجية ليشكل درعًا سياسيًا واقتصاديًا واستراتيجيًا لردع أي تهديد للسيادة الأردنية. 
وعلى الصعيد الإعلامي، ينبغي إطلاق حملات هجومية واضحة بلا مواربة تكشف مخططات إسرائيل الكبرى بكل أبعادها وتفضح نوايا التهجير والضم والهدم. أما داخليًا، فلا بد من معالجة نقاط الضعف السياسية والاقتصادية التي قد تستغل لإثارة الفوضى وتعزيز جبهة وطنية موحدة، مع الحفاظ على الحريات وتحصينها.
وفي ميزان الجغرافيا السياسية المتحركة، لم يعد الأردن مجرد ساحة عبور أو نقطة تماس، بل أصبح في عين العاصفة، إذ إن مشروع إسرائيل الكبرى يتقدم بثبات مدعوم بصمت دولي وتحالفات نفعية. إذا لم يدرك الأردن أن التهديد الوجودي لم يعد فرضية بل واقعاً قابلاً للتنفيذ، فإنه سيجد نفسه عاجزًا أمام لحظة قد لا تمنحه فرصة ثانية للنجاة. الرد الحاسم ليس خيارًا بل ضرورة وجودية.
وأختم بالحديث عن قصة مستوطنة "ميغرون" التي بدأت ببناء برج إرسال هاتفي على تلة، فاحتاج البرج إلى حارس أحضر معه عائلته للسكن، وتتابع قدوم العائلات حتى تحولت إلى مستوطنة كاملة، اضطر الاحتلال لاحقًا لمدها بالماء والكهرباء والصرف الصحي وترخيصها رسميًا رغم أنها على أراضٍ عربية. فهل ندرك حجم البؤس الذي نعيشه؟

مواضيع قد تعجبك