خبرني - بيت العلم يتحول إلى ساحة صراع
الجامعة هي بيت العقول ومصنع القيادات المستقبلية، وهي المؤسسة التي يُفترض أن تُدار بمنطق الكفاءة، وتُبنى على أعمدة البحث والإبداع، وتُحافظ على نزاهة القيم الأكاديمية. غير أن ما يحدث اليوم في بعض جامعاتنا الأردنية يشي بعكس ذلك؛ إذ نشهد تحوّل بيت العلم إلى ساحة صراع مكتوم، تقوده فئة صغيرة من المتسلقين والمتملقين، الذين لا يملكون من الأدوات إلا النفاق، ولا من السلاح إلا الشائعات والتشويه.
هذه الظاهرة، وإن بدت هامشية، هي في الحقيقة أزمة صامتة تمس قلب التعليم العالي، وتكشف عن خلل في منظومة القيم الأكاديمية التي من المفترض أن تكون الضمانة الأولى لتطور الجامعة والمجتمع معاً.
الأكْفَاء في مرمى الاستهداف
الأستاذ الجامعي الذي يتميز علمياً وبحثياُ وإدارياً، والذي يُبدع في قاعة الدرس وفي المختبر وعلى منابر المؤتمرات، يصبح في مرمى سهام التشويه. ليس لأنه ارتكب خطأً، بل لأنه برز ونجح وأثبت تميزه.
فبدل أن يُنظر إلى نجاحه كرافعة للجامعة، يُعامل على أنه خطر يهدد الآخرين، فيُستهدف بحملات منظمة من الشائعات، وتُعطَّل مشاريعه البحثية، وتُجهض مبادراته.
والحقيقة أن هذه الحرب الخفية ليست سوى انعكاس لضعف في البنية المؤسسية: فبدل أن تُحفِّز الجامعة على المنافسة الشريفة، تسمح أحياناً بتكريس بيئة يغيب فيها العدل، ويعلو فيها صوت المتسلق على صوت العالم.
عقدة الذات ونقص الثقة
إن ما نراه ليس خلافاً طبيعياً بين البشر، بل هو تجلٍّ لعقدة الذات التي يعاني منها بعض المحسوبين على الوسط الأكاديمي.
فهؤلاء يقيسون مكانتهم لا بما يُنتِجُون من علم، بل بقدرتهم على تحطيم غيرهم. ولأنهم عاجزون عن المنافسة في مضمار البحث والتدريس، فإنهم يلوذون بالنفاق، ويصعدون على أكتاف المجتهدين.
إنها أزمةُ ثقةٍ بالذات وبالمنجز الشخصي، تجعل الأكاديمي غير المُنتِج يفضِّل الظهور الإعلامي على البحث، والمجاملة على النقد العلمي، والشبكات الشخصية على الاستحقاق الموضوعي.
الشكوى تتحول إلى جريمة
الأخطر من كل ما سبق أن بعض الجامعات لم تعد ترى في الشكوى وسيلة للإصلاح، بل جريمة يُعاقَب عليها صاحبها.
فمن يكشف خللاً إدارياً أو فساداً أكاديمياً يجد نفسه متهماً بأنه "مثير للمشاكل"، وتُكتب عنه تقارير سرية تُعيق تعيينه أو ترقيته أو حتى انتقاله إلى جامعة أخرى.
وبهذا تتحول آلية المراجعة والمساءلة – التي يُفترض أن تحمي المؤسسة – إلى أداة قمعية تحمي الفساد وتُعاقِب النزاهة.
انعكاسات كارثية على التعليم والطلاب والمجتمع
هذه الممارسات لا تضر الأساتذة وحدهم، بل تهز البنية التعليمية برمتها:
١. تراجع جودة التعليم: لأن الطالب يتلقى معارفه من غير الأكفأ، بينما يُقصى الأستاذ المتميز.
٢. ضعف الإنتاج البحثي: فالباحث الذي يُحاصر ويُحارب لا يمكن أن يبدع أو ينافس عالمياً.
٣. إحباط جيل الشباب: الطالب الذي يرى أستاذه مكبّلاً يدرك أن المستقبل بيد الولاءات لا الكفاءات.
٤. هجرة العقول: الأكْفَاء الذين لا يجدون مكاناً لطاقاتهم يبحثون عن بيئة أخرى تحتضنهم، فنفقدهم لصالح جامعات عالمية أكثر عدلاً.
٥. فقدان ثقة المجتمع: وحين يقتنع المجتمع بأن الجامعات لا تكرِّم المتميز، تتراجع مكانة التعليم العالي في الوعي العام.
أبعاد اجتماعية وثقافية
ما يجري في بعض جامعاتنا ليس إلا صورة مصغرة من أزمة أوسع في الثقافة المؤسسية بالمجتمع:
١. ثقافة المجاملة والشللية بدلاً من ثقافة الكفاءة.
٢. تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة.
٣. اعتبار النقد البنّاء تهديداً بدلاً من اعتباره أداة تطوير.
إن الجامعة، هي مرآة المجتمع، تعكس أحياناً هذه المعضلات، لكنها أيضاً قادرة على معالجتها إن هي تبنَّت قيم النزاهة والشفافية.
نحو إصلاح جذري
إن إنقاذ جامعاتنا من هذا الانحدار يتطلب إصلاحاً عميقاً لا شكلياً:
١. شفافية مطلقة في التعيين والترقية، بحيث تكون المعايير موضوعية وقابلة للقياس (النشر العلمي، التدريس، خدمة المجتمع).
٢. حماية المبلغين والنقاد عبر تشريعات واضحة وآليات قانونية تُحصِّن الشكوى من أن تُستعمل ضد صاحبها.
٣. ربط الحوافز والدعم بالإنجاز العلمي الحقيقي، لا بالعلاقات أو الولاءات.
٤. إعادة الاعتبار لحرية الفكر، بحيث يكون النقد مباحاً ما دام موضوعياً وبنّاءً.
٥. مأسسة المحاسبة، فالمتسلقون والمنافقون الذين أساؤوا للجامعة يجب أن يخضعوا لمساءلة حقيقية، حمايةً لسمعة المؤسسة ورسالتها.
خاتمة: معركة من أجل المستقبل
المعركة مع المتسلقين ليست خلافاً بين أفراد، بل معركة من أجل هوية الجامعة ومستقبل التعليم العالي في الأردن.
إذا تركنا الساحة للمنافقين، فسوف نخسر ثقة المجتمع، ونفقد قدرتنا على المنافسة عالمياً. أما إذا وقفنا مع الكفاءات، وكرَّمنا المبدعين، ورسَّخنا قيم النزاهة، فإن جامعاتنا ستظل منارات للعلم، وركيزة أساسية للتنمية والنهضة.
لقد آن الأوان أن نحسم خيارنا بوضوح: إما أن نكرّم العلم والإبداع، أو نترك الساحة للمتسلقين. والفرق بين الخيارين هو الفرق بين النهضة والانحدار.




