*
الاحد: 07 ديسمبر 2025
  • 18 أغسطس 2025
  • 09:14
الكاتب: الدكتور زيد أحمد المحيسن

خبرني - الوطن لا يحميه إلا زنود أبنائه، الزنود السمر، المتينة، الصلبة، المشبعة بالعزيمة والإرادة، المجبولة على الإيمان والانتماء، تلك التي سُقيت من عرق الرجال ودماء الشهداء، ونُقشت على ساعديها خرائط المجد والكرامة.
حين صدر النطق السامي بعودة خدمة العلم، لم يكن القرار قرارًا إداريًا عابرًا، بل كان صرخة وعي، ونفير نهوض، ومشروع بناء وطني لا يصقل الأجساد فقط، بل يبني الإنسان الأردني الحرّ، المسؤول، المؤمن بأن الجيش هو الهوية الجامعة، والمصهر الذي تذوب فيه كل الفوارق والانتماءات الضيقة، لتولد هوية واحدة موحدة: اسمها الأردن.
من درعا إلى العقبة، ومن الدرة إلى الطرة، تلك الأرض ليست حدودًا جغرافية فقط، بل امتدادٌ روحي واحدٌ لا يتجزأ. إنها خارطة دمٍ مشترك، وعرقٍ مشترك، وراية واحدة لا تُرفرف بقوة الرياح، بل تنبض من نجيع الشهداء، أولئك الذين صعدوا من ميادين التدريب أو ساحات الواجب إلى مراتب المجد، فحرّكوا علم الوطن عاليًا خفاقًا.
إن خدمة العلم هي الجسر الواصل بين الجيل والأرض، بين الماضي المجيد والحاضر الواعي، بين الطموح الفردي والمصلحة الوطنية. هي التجربة التي تعلمك كيف تأكل مع رمل الصحراء، وكيف تواجه بعوض الغور، وكيف تتنفس رائحة الوطن وأنت تهبط بمظلتك على أرضه، فتحضنك الأرض وتهمس فيك: كن على قدر الأمانة.
هي اللحظة التي تدرك فيها أن العلم ليس قطعة قماشٍ ملوّنة على سارية، بل هو صرخة دمٍ سال من صدر شهيد، وزفرة أمٍ ودّعت ابنها على أمل العودة، ووعدُ مجندٍ يقف في الظلّ ليحرس النور. هو عَلمٌ نُسِج من دماء الشهداء، لا من خيوط القماش، عَلمٌ لا يُنكس لأنه لا يسقط، بل يُرفع كلما سقط فارسٌ في سبيل الله والوطن.
في ميدان الخدمة، يتعلم المجند معرفة جغرافية الوطن كما يعرف راحة يده، ويقرأ تاريخه كما يقرأ سورة الفاتحة، ويعرف أبناءه كما يعرف نفسه، لأنه بات مسؤولًا عنهم، عن حمايتهم، عن السهر على راحتهم ليلًا ونهارًا.
في هذا الميدان، لا تتعلم فقط فنون السلاح والانضباط، بل تتعلم كيف تكون إنسانًا له قضية، ومواطنًا له شرف، وجنديًا له عقيدة.
تتعلم أن الإسلام قوة وجهاد، وصفاء وأخوّة، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن حب الوطن ليس كلمات تقال، بل دم يُبذل، ووقت يُمنح، وروحٌ تفنى إن لزم الأمر.
وعندما تهتف الحناجر في قلب الميدان:
الله... الوطن... الملك
وتهتز الأجساد مع كل دقة طبل، ومع كل صيحة نداء:
دعوة الحق لدينا... نفحة هبّت علينا
أرسل الله إلينا... سيد الكون محمد
فأنت لا تردد نشيدًا، بل تستحضر رسالة، وتحمل إرثًا، وتوقّع عهدًا بأن تكون جنديًّا في كل وادٍ، وسندًا لكل حرّ، ومجيبًا حين يناديك الأقصى: "هل من مجيب؟"
نعم، نحن المجندون... نحن المجيبون، لأننا أبناء الأرض التي لا تُساوم، ولأننا سفراء تاريخها، وحملة هويتها، ورُسل رسالتها إلى المستقبل.
فهنيئًا لمن التحق، وهنيئًا لمن خدم، وهنيئًا لمن فهم أن خدمة العلم ليست لحظة في الحياة، بل بداية حياة لها معنى.
وما أجمل أن نخرج منها رجالًا تملأ أرواحهم الكرامة، وتفيض قلوبهم بالوطن، وترتفع رؤوسهم لأنهم ارتدوا بزّة الشرف، لا موضة المجد الزائف.
هذا هو الأردن... وهذا هو جيشه.
وهذا هو شبابه... حين يعودون من ميادين التدريب:
لا كما دخلوا، بل كما ينبغي أن يكون الرجال. .

مواضيع قد تعجبك