خبرني - مع صدور نتائج الثانوية العامة، تبدأ الجامعات الحكومية والخاصة سباقا محموما لاستقطاب الطلبة عبر الإعلان عن برامج أكاديمية جديدة، سواء في مستوى البكالوريوس أو الدبلوم المتوسط.
هذا التنافس المشروع يعكس في ظاهره رغبة الجامعات في توسيع خيارات الطلبة ومواكبة التغيرات المتسارعة في سوق العمل، لكنه في الوقت ذاته يثير تساؤلات جوهرية حول مدى جدوى هذه البرامج واستدامتها.
التجربة الأردنية خلال العقود الماضية تقدم شواهد ملموسة على تخصصات أُطلقت باحتفاء واسع، لكنها ألغيت لاحقا بعد سنوات قليلة من استحداثها، إما بسبب ضعف الإقبال الطلابي أو لعدم مواءمتها مع سوق العمل، أو بسبب كلفتها التشغيلية العالية التي أثقلت كاهل الجامعات، وحتى بعض الجامعات الحكومية لم تكن في مأمن من هذا السيناريو، ما يؤكد أن التوسع الأفقي "غير المدروس" في استحداث البرامج ليس بالضرورة مؤشر نجاح أو تقدم أكاديمي.
التحدي الأول لضمان استدامة البرامج الجديدة يكمن في غياب الدراسات المتخصصة أو الاكتوارية التي من شأنها تقدير حجم الطلب المتوقع على التخصصات، وتحديد فرص التشغيل المتاحة للخريجين على المستويين المحلي والإقليمي.
أما التحدي الثاني فهو الاستدامة المالية، حيث تطرح برامج تتطلب كوادر متخصصة وتجهيزات مكلفة من مختبرات ومرافق، ثم يتضح لاحقا أن الإيرادات لا تغطي النفقات، أما التحدي الثالث فيتجسد في سمعة الجامعة واستقرارها الأكاديمي، إذ إن كثرة إلغاء البرامج أو تغييرها يبعث برسائل سلبية للطلبة والمجتمع حول جدية التخطيط في تلك المؤسسات.
ولعل أبرز التوصيات التي تعزز الاستدامة للبرامج الجديدة تتمثل في إجراء دراسات معمقة قبل استحداث أي برنامج جديد، تشمل تحليلا ليس لما يحتاجه السوق فقط، بل أيضا لتوجهاته المستقبلية، لتجنب تخريج أعداد كبيرة في مجالات لا توفر فرص عمل كافية، والتنسيق الوطني بين الجامعات من خلال وزارة التعليم العالي وهيئة الاعتماد، بما يمنع تكرار البرامج ذاتها في عشرات الجامعات بشكل يفقدها قيمتها، ويحول دون تخمة الخريجين في تخصصات معينة، والتركيز على الجودة لا الكم، بحيث تستثمر الجامعات في تخصصات محددة تتميز بها وتعرف بها، بدلا من التوسع الأفقي في عناوين أكاديمية تفتقد للعمق، ثم يأتي أهمية إشراك القطاع الخاص في صياغة البرامج الجديدة، عبر اتفاقيات تعاون مع الشركات والمؤسسات المحلية والعالمية، لضمان وجود مسارات تدريبية ومهنية حقيقية للخريجين، مع مراجعة دورية كل بضع سنوات لبرامج الجامعة، بحيث يتم تطويرها أو إعادة توجيهها بما يتناسب مع المستجدات الاقتصادية والتقنية.
إن التنافس بين الجامعات الأردنية لاستحداث برامج أكاديمية جديدة أمر مشروع بل ومطلوب، لكنه ينبغي أن يكون تنافسا على النوعية والاستدامة، لا مجرد أرقام وعناوين مؤقتة تجذب الطلبة سرعان ما تتلاشى، فالتعليم العالي في جوهره استثمار وطني طويل الأمد في رأس المال البشري، وأي تخصص يطرح يجب أن يكون قادرا على خدمة الطالب والمجتمع والاقتصاد في آن واحد.
إن ضمان استدامة البرامج الجديدة ليس مجرد ترف إداري، بل شرط أساسي للحفاظ على سمعة الجامعات الأردنية ومكانتها في بيئة تعليمية عالمية متغيرة.




