خبرني - سهيل راضي العتوم – محلل إقتصادي ومالي
تعمل اللجان في البنك الفيدرالي على إدارة السياسة النقدية من خلال سلسلة أدوات أساسية؛ تشمل عمليات السوق المفتوحة، وسعر الفائدة الرئيسي، والتسهيلات الدائمة، والحد الأدنى لمتطلبات الإحتياطي، وعمليات إعادة الخصم والقرض، بالإضافة إلى قرارات الإئتمان وأسعار الفائدة. وذلك بناءا على البيانات الواردة ولخلق توازن في السوق والمحافظة على القوة الشرائية للدولار. بينما يستخدم أصحاب القرار في السياسات المالية سياسة الإنفاق العام و فرض الضرائب والتعرفة الجمركية لتحقيق الاستقرار والنمو الإقتصادي.
من المعروف إمكانية استخدام السياستين لمعالجة عدة مشاكل كالتضخم والبطالة والركود، حيث يمكن للفيدارلي رفع الفائدة الأساسية لخفض الطلب، وبالتالي خفض المعروض النقدي، ويمكن لإدارة ترمب رفع الضرائب، أو فرضها، للأمر ذاته. في الولايات المتحدة، بلغت معدلات التضخم السنوية 2.7% لمؤشر أسعار المستهلكين، بنمو شهري 0.3% تقريبا، و 2.9% لمؤشر التضخم الأساسي (باستثناء الغذاء والطاقة). ويبلغ معدل الفائدة الفعال (Effective Federal Funds Rate)؛ 4.33% تقريبا، بينما السعر المستهدف هو 4.25% - 4.50%، كما بين الفيدرالي في 18 يونيو من هذا العام.
من جهة أخرى، تعاني الولايات المتحدة من أزمة دين غير مسبوقة، حيث بلغ إجمالي الدين العام 36.4 تريليون دولار في نهاية أبريل، وبلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي (Debt-to-GDP) 124% تقريبا بعجز يبلغ حوالي 1.3 تريليون دولار لنهاية يونيو من العام الحالي. وبحسب البيانات، تجاوزت هذه النسبة نطاق الـ 100% لأول مرة في عام 2013، واستمرت بالإرتفاع خاصة بعد جائحة كورونا وتحفيزات الإقتصاد، لتصل إلى 133% نهاية عام 2020.
كما ذكرنا، يقوم الفيدرالي بالحفاظ على قوة الدولار الشرائية، وخلق توازن في العرض والطلب والمعروض النقدي، وتعمل إدارة ترمب على زيادة الإيرادات الحكومية من التعرفة الجمركية والضرائب، وخلق فرص وظيفية لزيادة النمو؛ إذ يرتبط النمو أيضا بشكل كبير بأسعار الفائدة الأساسية التابعة للفيدرالي. هناك رغبة شديدة لإدارة ترمب بتخفيض أسعار الفائدة لما لها من أثر كبير على النمو، بينما مخاوف الفيدرالي من الركود التضخمي (Stagflation) جعلته مستقرا في قراراته.
الجدير بالذكر، أن هيمنة الدولار بانخفاض منذ عقود، حيث بلغت نسبة حصة الدولار من الإحتياطيات العالمية 64% في 2015، بينما تبلغ اليوم 57%، بمعدل انخفاض مقداره 1% سنويا تقريبا. ومنذ الحرب الروسية الأوكرانية وزيادة مشاركة الدول في مجموعة بريكس (BRICS)، زادت إحتياطيات البنوك المركزية من المعدن الأصفر بشكل كبير، وزاد الإستغناء عن الدولار في التبادلات التجارية، حيث عملت روسيا والصين على تطوير نظام دفع بديل لـ SWIFT، (CIPS & SPFS)، وبدأت دول بريكس باستخدام عملاتها المحلية في التبادل التجاري؛ الروبل الروسي واليوان الصيني في التجارة الثنائية على سبيل المثال، الروبية الهندية في واردات الطاقة من روسيا، الدرهم الإماراتي والريال السعودي مع اليوان في التجارة الخليجية الآسيوية. علاوة على ذلك، طرحت بريكس مشروع عملة احتياطية مشتركة مدعومة بالذهب للدول الأعضاء، المشروع ما زال قيد التطوير، لكنه يعكس نية موازنة هيمنة الدولار. الأمر الذي زاد ثبات الفيدرالي على قراره بشأن الفائدة، وزادت المخاوف الأمريكية من خسارة في هيمنة الدولار الدولية. لذلك وعلاوة على ما تم ذكره، استخدمت إدارة ترمب الرسوم الجمركية ليس فقط لدعم الصناعة المحلية وخلق الوظائف؛ بل لتحفيز الدول على الإستيراد بالدولار، حيث أجبرت الرسوم الموردين (خصوصا الصين) على خفض الأسعار أو تحويل تكاليفهم إلى دولار، الأمر الذي أعاد تسعير العقود التجارية بالدولار لتفادي التكاليف الإضافية، لما رآه ترمب من استفادة الصين من سعر الصرف المنخفض ولفرض ضغط يجعل اليوان أقل تنافسية وبالتالي إعادة جذب التجارة نحو التسعير بالدولار بدلا من تنامي استخدام اليوان. أيضا، تعزيز الإعتماد على النظام المالي الأمريكي؛ حيث دفعت الحروب التجارية الدول إلى الإحتفاظ بالدولار كتحوط ضد تقلبات السوق العالمي، الأمر الذي زاد الطلب على الأصول المقومة بالدولار، كسندات الخزانة الأمريكية. جاء هذا ضمن استراتيجية "أمريكا أولا" لفرض التعامل المالي والسيادي عبر الدولار.
تظهر التجربة الاقتصادية الأمريكية خلال فترة إدارة ترمب، أن أدوات السياسة المالية، وعلى رأسها الرسوم الجمركية، لم تكن تهدف فقط إلى حماية الصناعة المحلية وتحفيز النمو، بل أصبحت جزءا من استراتيجية أوسع لإعادة ترسيخ هيمنة الدولار في ظل تحديات متصاعدة من الشرق. في المقابل، ظل الفيدرالي متيقظا، محاولا الموازنة بين السيطرة على التضخم والحفاظ على استقرار الأسواق المالية.
إن الواقع الجيوسياسي والاقتصادي الجديد، يشير إلى بداية تحول تدريجي في النظام المالي العالمي، ما يستوجب من صناع القرار الأمريكيين انتهاج سياسات أكثر مرونة وابتكارا لمواجهة تحديات مستقبلية قد تكون أكثر تعقيدا من مجرد فروقات في نسب الفائدة أو رسوم جمركية.




