خبرني - في صمت المدن الصغيرة وضجيج العاصمة، يتوارى سؤال كبير خلف وجوه الشباب: "هل نحن أبناء المشروع أم ظلاله؟".
منذ منتصف القرن العشرين، كان الشباب في الأدبيات السياسية والاجتماعية يُنظر إليهم كـ"قوة كامنة"، وفق تعبير ألبيرتو ميلوتشي، لا تتحرك إلا حين تصل البنى التقليدية إلى درجة من التصلب تعجز فيها عن احتواء المعنى الجديد. وفي الأردن، لا يختلف المشهد كثيرًا، إلا من حيث الكثافة الرمزية التي يحملها الشاب بين الحلم والخيبة، وبين التوق للتحقق ومراوغة الواقع.
فمنذ ما يزيد عن عقدين، تتنامى المفارقة المركزية في الخطاب التنموي: كيف يمكن أن نُراهن على الشباب بينما نُعيد إنتاج ذات الأنماط التي أقصتهم تاريخيًا من مراكز القرار والتأثير؟ وهي مفارقة لا تقتصر على البنية السياسية فقط، بل تمتد إلى النموذج الاقتصادي الذي ما يزال قائمًا (في جزء منه) على المركزية الإدارية وتضخّم القطاع العام مقابل محدودية فرص التمكين الحقيقي في القطاع الخاص، ناهيك عن هشاشة بيئة ريادة الأعمال في المحافظات، التي لا تزال تفتقر إلى البنية التحتية الفكرية والداعمة لتوطين المشاريع خارج الإطار النظري.
لقد مثّلت "الاستراتيجية الوطنية للشباب" في صيغها المتكررة محاولة لإعادة إدماج هذه الفئة في المشهد الوطني، لكنّها كثيرًا ما اصطدمت بجدار "الثقافة السياسية"، كما وصفها صامويل هنتنغتون، حيث لا يكفي الإطار المؤسسي لخلق الفعل السياسي ما لم تتوفر البيئة التي تؤمن بالفاعلية المجتمعية للفرد، وتحترم قدرته على التشكيل لا مجرد الاستجابة.
فالشاب الأردني في تجاربه السياسية المحدودة بدا غالبًا كفاعل اضطراري، لا اختياري، تُفتح له الأبواب في مواسم معينة ثم تُغلق بصمت، من غير أن يُقال له إن الوقت قد انتهى، ولكن بوسائل أكثر لباقة، وأشد إحباطًا.
في الاقتصاد، يطالعنا واقع أكثر إشكالية، تشير الإحصاءات الرسمية إلى نسب بطالة تجاوزت 45% في بعض الفئات الشبابية، لكنّ الخطورة لا تكمن في الرقم المجرد بقدر ما تكمن في ما أسماه بيير بورديو بـ"العنف الرمزي" حين تتحول البطالة إلى نمط حياة، فتُفرغ الفرد من علاقته الجدّية بالزمن، وتضعه في موقع التلقي السلبي للواقع بدل صناعته، وهنا لا يتعلّق الأمر بعدم وجود فرص فقط، بل في اختلال العلاقة بين النظام التعليمي وسوق العمل، وبين التخصصات الجامعية وبين التحولات الرقمية التي غيّرت وجه الاقتصاد العالمي، فيما ظلّت البنية المحلية تستجيب بتثاقل أو بذهول.
لكن، ما الذي يعنيه كل ذلك في المحصلة؟ هل نحن أمام جيل تائه؟ أم أمام جيل يرفض أن يُصاغ خارج شروطه؟ هنا تبرز الثقافة بوصفها المستوى الأعمق للصراع، فالثقافة لا تعني الفنون والآداب فحسب، بل تعني البنية الرمزية التي يُنتج الشاب من خلالها هويته وموقعه في المجتمع. من يملك الخطاب الثقافي يملك امتياز إعادة تعريف "الواقع" ذاته. ولذلك، فإنّ الشباب الذين أسسوا مبادرات ثقافية مستقلة، أو أنتجوا فنونًا رقمية، أو شاركوا في فضاءات التواصل كمساحات تعبير وهدم وإعادة بناء، لم يفعلوا ذلك لترف فكري، بل لأنّ هذه المنصات كانت في غياب المنصات الرسمية الحقيقية الأفق الوحيد الممكن للقول والفعل والتأثير.
في هذه النقطة، لا بد من الإشارة إلى تحوّل جوهري تعيشه المجتمعات العربية عمومًا، والأردنية منها تحديدًا: صعود "الفرد المواطن" على حساب "العضو في الجماعة". فالشاب اليوم لم يعد يعرّف نفسه فقط من خلال انتمائه العائلي أو الجهوي أو حتى السياسي، بل عبر قدرته على الوجود كذات مستقلّة، تُدرك حقوقها وتسائل مؤسساتها بوعي مدني، دون أن تُنكر شرعيتها أو تنقلب عليها. وهذا ما يجعل المشهد مركبًا، إذ كيف لمجتمع لم ينضج بعد على مستوى المفهوم المدني الكامل، أن يحتوي جيلاً سبق خطابه المؤسساتي بعقدين على الأقل؟
ومع ذلك، فإنّ كل هذه التحديات لا تعني الغياب الكلي لأدوار الشباب، بقدر ما تشير إلى الحاجة لتفكيك الرواية السائدة عنهم، فهم ليسوا مجرّد متلقين للسياسات، بل مشاركون وإن بوسائل غير تقليدية في صياغة ملامح وطن جديد، أكثر صدقًا مع ذاته، وأكثر شجاعة في الاعتراف بتناقضاته.
وربما تكون اللحظة الأكثر صدقًا، حين نتوقف عن سؤال: "كيف ندمج الشباب؟"، ونسأل بدلًا منه: "ما الذي يمنعنا من أن نجعلهم في الصدارة؟"، من دون أن نعدهم بالمستقبل، بل نضعهم فيه.
فالأوطان لا تُبنى بالتمنّي، ولا بالإعلانات، ولا بالخطابات العاطفية، الأوطان تُبنى حين يُمنح من يملك الطاقة فرصة أن يحوّلها إلى معنى.
والشباب الأردني، برغم كل العوائق، لا يزال يملك هذه الطاقة ينتظر فقط أن يُرى كما هو، لا كما يُراد له أن يكون.




