خبرني - قبل 100 عام، قال سلطان باشا الأطرش جملته الفاصلة:
(دينُنا وقوميتُنا توأمان لا ينفصلان، فنحن مسلمون بالديانة، عربٌ بالوطن، سوريون بالإنتماء).
لم تكن هذه الكلمات مجرّد بيان وطني، بل كانت ميثاقًا يؤسّس لقاعدة الهوية. لم يكن يخاطب فيها طائفة، بل وطنًا، ولم يكن يؤسّس لزعامة، بل لذاكرةٍ تُقاوم التهميش والنسيان.
واليوم، ونحن على أعتاب مئوية الثورة السورية الكبرى، تُجلد هذه الذاكرة مجددًا، لا في ميدان معركة، بل في مشهد مدروس ومخطط له بدقة في قلب السويداء.تم إهانة الصورة علنًا، في محاولة لتفكيك إرث جماعيّ، في مشهد صُمّم بعناية لتكسير الرمزية قبل الجغرافيا.
فمنذ تأسيس الكيان الصهيوني، لم تكن إسرائيل تنظر إلى سوريا كعدوٍ كلاسيكي فحسب، بل كفسيفساء قابلة للتفجير من الداخل، عبر الطوائف، عبر الأقليات، عبر الرموز. وكانت الورقة الدرزية دائمًا هدفًا محوريًا في هذا المسعى، في الجنوب السوري، حيث لا تزال الجغرافيا شاهدة على عناد التأريخ، تتقاطع مصالح الدول ومشاريع التقسيم والتدويل على سفوح جبل العرب. هناك، حيث اعتاد الناس أن يحموا أنفسهم دون جيش، ويقودوا ثوراتهم دون وصاية، عادت السويداء لتتصدّر مشهدًا دمويًا لا يُقرأ فيه سوى سؤال واحد،
لماذا الآن؟ ولماذا المكوّن الدرزي تحديدًا؟
ما نشهده في السويداء ليس حادثًا معزولًا، ولا صراعًا داخليًا فوضويًا، بل حلقة أولى في سلسلة مترابطة من الترتيبات الجيوسياسية، التي تبدأ من الجنوب السوري وقد لا تنتهي إلا عند أبواب دمشق. إذ تتحرك إسرائيل الآن وفق رؤية استراتيجية متكاملة، تم تثبيتها على الأرجح خلال اللقاءات المغلقة التي جمعت نتنياهو وترامب مؤخراً ، حيث تدلل المؤشرات إلى ضوء أخضر أميركي غير معلن لإعادة إنتاج الدور الإسرائيلي الإقليمي التوسعي، لا عبر الإحتلال المباشر، بل عبر الإختراق الناعم وفرض الحماية الطائفية.
الساحة الدرزية ستتحول تدريجيًا إلى قوات محلية تُدفع لحمل السلاح بذريعة الدفاع عن النفس، ثم ترتبط وظيفيًا بإسرائيل، قبل أن تُستخدم كورقة ضغط على دمشق وعلى المحيط العربي والدولي. فإسرائيل لا تسعى لحماية أحد، بل لتفجير الداخل السوري من خلال زرع كيانات طائفية مرتهنة تضمن لها السيطرة على عمقها الحدودي وتمنع عودة الدولة المركزية والتي بدورها اصبحت مبهمة المعنى.
في هذا الإطار، يُعاد تظهير الدروز إعلاميًا كضحايا مهددين بالإبادة، بما يبرر تدخلًا إسرائيليًا حمائيًا بدعوى الروابط القديمة فالجيش الإسرائيلي يضم عددًا لا يُستهان به منهم ، وبذلك يمنح تل أبيب منصة خطابية أخلاقية في الغرب، تعيد شرعنة دورها في سوريا كما فعلت في لبنان الثمانينات.
و ما حدث من قصف إسرائيلي للجنوب السوري، ثم انسحاب سريع لقوات (الشرع/الجولاني)، ليس سوى مقدمة لسيناريو متكامل، دفع السويداء للإنفجار، ثم التلويح بـ(الإنقاذ) ،ومن قبل من؟ (إسرائيل) ، وصولًا إلى تفويض دولي ضمني لتشكيل واقع جديد على الأرض.
ان أخطر ما في هذا المشروع ليس التوغل الإسرائيلي الظاهر، بل إعادة تعريف المكون الدرزي بأكمله كمجتمع قابل للتوظيف خارج الهوية الوطنية السورية. من جهات مختلفة و هذا التوصيف يُنتج انقسامًا داخليًا مريرًا، بين من يرون في إسرائيل خلاصًا مؤقتًا، ومن يدركون أنها حفّار قبر الوطن. وإذا نجح هذا الإنقسام، فسيُفتح الطريق أمام مرحلة (دمشق اللّا مركزية)، حيث تُعزل العاصمة سياسيًا وتُحاصر جغرافيًا من الجنوب والشرق والشمال والداخل .
الهدف النهائي ليس فقط السويداء، بل سوريا كدولة وهوية. وما يجري من المفاوضات المغلقة سواء في تل أبيب أو واشنطن أو بعض العواصم العربية ، يصب في استراتيجية تفكيك الدولة السورية إلى كانتونات طائفية، تمهيدًا لشرق أوسط جديد لا توازن فيه إلا لإسرائيل. الجنوب هو البداية، لكنه ليس النهاية.
ونقطة الضعف الأهم، معاناة دمشق من معضلة استراتيجية، فهي لن تجتاح السويداء ، مع غياب السيطرة و تبدو عاجزة عن حماية وحدة البلاد. هذا الفراغ يُملأ حاليًا بخطاب ودعوات لتشكيل "جيش توحيدي" درزي، هي الأخرى تُستخدم لإعادة هندسة موقع الطائفة في المشهد السوري، خارج المظلة الوطنية.
إن ما يحدث في جبل العرب اليوم ليس صراعًا حول السلطة، بل معركة مصيرية حول هوية سوريا نفسها هل تبقى وطنًا جامعًا، أم تتحول إلى موزاييك من الهويات المتنازعة، وكل منها يبحث عن حماية من الخارج؟؟ ومن يأمن هذا الخارج ومصالحه .
إسرائيل تعرف تمامًا أن بوابة دمشق لا تُفتح من الجولان، بل من السويداء. ومن يكسر هذا الجبل، يمكنه أن يطوّق العاصمة، لا عسكريًا فقط، بل أخلاقيًا وسياسيًا. لذا، فإن الورقة الدرزية ليست مجرد ملف أقلية، بل أداة اقتحام استراتيجي لنظام إقليمي كامل.
بالمقابل ما دور ايران هنا ، هل يمكن لطهران التدخل في تطورات السويداء عبر أدوات غير مباشرة تُبقي تحركاتها تحت عتبة المواجهة مع إسرائيل؟؟. هل تبدأ هذه الأدوات بتحريك شبكاتها الموالية في محيط السويداء، لإرباك أي تموضع خارجي جديد ومنع تشكُّل كيان منفصل وظيفيًا.؟؟ أم هل تدفع بإتجاه تسليح مجموعات درزية مضادة و موالية للمحور الإيراني تحت شعار (الدفاع الذاتي)، لخلط الأوراق الداخلية ومنع توجّه المكون الدرزي نحو اصطفاف واضح مع إسرائيل؟؟. أم توظّف طهران خطابًا إعلاميًا ودينيًا يُقدّم المشروع الإسرائيلي كتهديد وجودي للأقليات، مما يشرعن تدخلها بإعتباره (ضامنًا للتوازن الأهلي)؟؟. وتحت مظلة هذا الخطاب،هل تُفعل نفوذها في دمشق لدفع النظام نحو مناورات سياسية في الجنوب، دون انزلاق إلى صدام مكشوف.؟؟ وهل يكون (الشرع /الجولاني) هدفًا مبطنًا للتحييد. و يمنح طهران مبررًا إضافيًا لتدخّلها، و محفزًا لتحركها الموزون، في إطار معركة توازن دقيقة تُدار دون صدام مباشر.
وأخيرا في هذه اللحظة، لا عدوّ أكبر من الغفلة، ولا خيانة أعمق من التماهي مع وهم (الإنقاذ الصهيوني). السويداء لا تحتاج للحماية الإسرائيلية ، بل لإستعادة قرارها الوطني. فإما أن يبقى الجبل جبلًا، أو يُختزل إلى منصة لإحتلال جديد، يرفع علمه هذه المرة لا فوق الدبابات، بل في قلوب من فقدوا البوصلة.




