حين تُحارب الجهود الخيّرة، وتُبخس النجاحات، وتُقابل النوايا الصادقة بالتشكيك والتجريح، ندرك أننا أمام خللٍ كبير في منظومة القيم والمفاهيم. هذا الخلل لا يهدد الأفراد فحسب، بل يُهدد مستقبل الأمة بأسرها. والمؤلم أن العاملين في الحقل الخيري والثقافي والاجتماعي والإغاثي والتطوعي، وهم من يبذلون أرواحهم ووقتهم وجهدهم في خدمة الناس، يواجهون من العناء والمكابدة ما لا يُطاق، لا لشيء سوى أنهم ناجحون.
لقد أصبحنا في واقعٍ تُعاقَب فيه الجدارة، وتُقصى الكفاءة، ويُحاصر المخلص. وبدلًا من أن تُستقبل النجاحات بالتكريم والدعم، نجدها تُستقبل بالريبة والحسد، بل وأحيانًا بالمحاربة العلنية والصامتة. فما أسوأ أن يتحول الحاسدون إلى أصحاب قرار، وأن تتحول الغيرة إلى سياسة، وأن يصبح الفشل معيارًا للقبول، والنجاح تهمة تستوجب الدفاع!
وما يُضاعف الألم أن كثيرًا من هذه المعارك تُدار من داخل المؤسسات الرسمية التي يفترض بها أن ترعى الإبداع، وتحتضن الكفاءات، وتدعم العمل التطوعي والمجتمعي. لكنها – في حالات كثيرة – تُدار بعقليات ترى في كل نجاح تهديدًا، وفي كل مبادرة مستقلة خطرًا على "الكرسي"، فتسعى لهدمها، بدلًا من مد يد العون لها.
ما أشدّ حاجتنا إلى ثقافة "الفرسان" في التنافس: تنافس في الخير، في البناء، في خدمة الوطن والمواطن. لا تنافسًا يقوم على التحطيم والإقصاء وتزييف الحقائق. لقد أصبح من المعتاد أن تُنصب الأشواك في طريق الناجحين، وأن يُحاصروا بالكلام الجارح، والتأويلات المغرضة، بل تُحاك ضدهم المؤامرات، فقط لأنهم أخلصوا وأبدعوا وتميزوا.
وحين يموت أحدهم، نضع الورد على قبره، بعد أن حاصرناه حيًّا، وضيّقنا عليه الخناق، وأطفأنا شعلته. أليس هذا هو النفاق بعينه؟ أليست هذه هي قمة المفارقة المؤلمة؟
لقد قضيتُ خمسين عامًا من عمري في العمل التطوعي، منذ أيام الدراسة وحتى اليوم، متنقّلًا بين الجمعيات والمنتديات والأندية والمبادرات الأهلية. لمست بنفسي حجم العراقيل التي توضع أمام العطاء الحر، وشهدت كيف يُحارب الناجح لأنه ناجح، لا لخطأ اقترفه، بل لأن الآخرين لا يستطيعون مجاراته في همّته واجتهاده.
وأقولها بمرارة صادقة: إن أمة تحارب الناجحين، وتُطفئ نورهم، وتستكثر عليهم التميز، هي أمة تسير إلى الخلف، لا إلى الأمام. أمةٌ لا تتقدم، بل تتآكل من الداخل، وتخسر أفضل ما تملك: أبناءها المخلصين.
إن الطريق إلى التقدم يبدأ من احترام الكفاءة، وتقدير الإنجاز، وتشجيع كل يدٍ تبني، وكل عقلٍ يُبدع، وكل قلبٍ ينبض بحب الوطن. فلنُحيِ في مجتمعاتنا روح التنافس الشريف، ولنقل بصوت عالٍ: كفى حصارًا للنجاح، وكفى حربًا على الأمل.




