*
الاحد: 14 ديسمبر 2025
  • 12 تموز 2025
  • 14:36
التعليم العالي بين غياب الدور وضياع البوصلة أين الهيئة وأين المجالس
الكاتب: أ. د. هاني الضمور

خبرني - يمرّ التعليم العالي في الأردن بمرحلة دقيقة، تتكاثر فيها التحديات بينما تتراجع فعالية المؤسسات التي يُفترض أن تضبط الإيقاع الأكاديمي وتحمي جودة التعليم وتوجه سياساته نحو الإصلاح الحقيقي. في هذا السياق، جاء تصريح وزير التعليم العالي مؤخرًا حول تراجع الجامعات الأردنية في مؤشر النزاهة البحثية، رغم الإنفاق المتزايد على التصنيفات الدولية، ليكشف عن فجوة أكبر من مجرد رقم، فجوة تتعلق بغياب المرجعيات المهنية، ومؤسسات الحوكمة الفاعلة.

حتى لو سلّمنا – جدلًا – بأن المؤشر الذي استند إليه التصريح دقيق ومعتمد دوليًا، فإن الطريقة التي تم بها تداوله ومعالجته تكشف عن خلل أعمق في آلية التعامل مع الأداء الأكاديمي. لم نشهد استدعاءً مؤسسيًا للمؤشر، ولا تفسيرًا علميًا، ولا حتى قراءة مهنية له تضعه في سياقه الصحيح. فقط تصريح مباشر، ورد فعل شعبي، وصمت مؤسسي غريب.

في مثل هذه القضايا، كان يُفترض أن تتصدر المشهد هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي وضمان جودتها، وهي الجهة المنوطة أصلاً بمراقبة جودة الأداء، وتحليل المؤشرات، ومخاطبة الرأي العام بلغة مؤسسية مسؤولة. لكن الهيئة غابت. لا بيان، لا تحليل، لا مساءلة علمية، وكأن المؤشر لا يعنيها، أو كأنها أُبعدت عن الملف عمدًا. وهذا الغياب لا يفسَّر إلا بأحد أمرين: إما أن الهيئة مُغيّبة، أو أنها فضّلت الانسحاب طوعًا، وفي الحالتين، فإن وجودها يصبح شكليًا، لا جوهريًا.

ولم يكن غياب الهيئة وحده ما يثير الأسئلة. فالصمت امتد إلى مجالس الحوكمة العليا في التعليم العالي، وفي مقدمتها مجلس التعليم العالي، الجهة التي يقع على عاتقها رسم السياسات العامة وتنظيم العلاقة بين الوزارة والجامعات. كما أن مجالس أمناء الجامعات، التي وُجدت لضمان استقلال المؤسسات الأكاديمية وتحقيق التوازن بين الإدارة والرقابة، لم تحرك ساكنًا. لم نرَ موقفًا، ولا دفاعًا عن الجامعات، ولا حتى توضيحًا للواقع. هل تحوّلت هذه المجالس إلى أطر رمزية تُفعّل على الورق وتُجمّد عند الأزمات؟ أم أن غيابها جزء من خلل أوسع في منظومة اتخاذ القرار؟

وبين الهيئة والمجالس، يظهر فراغ آخر أشد وضوحًا: لا توجد لدينا جهة وطنية متخصصة بإدارة وتوجيه البحث العلمي، أو على الأقل مجلس بحث علمي مستقل يتولى قراءة هذه المؤشرات ومقارنتها عالمياً، ويقدم تقارير استراتيجية توجه السياسات الجامعية. في بلد مثل الأردن، لا يمكن أن يُترك ملف البحث العلمي لاجتهادات فردية أو لوزير يتحدث دون ظهير مؤسسي. وجود مجلس بحث علمي وطني لم يعد ترفًا، بل ضرورة لتصحيح المسار، وإعادة ترتيب الأولويات في قطاع يفترض أنه يقود التنمية لا يلاحقها.

الجامعات الأردنية، رغم ما تواجهه من ضغوط مالية وتشريعية وإدارية، ما زالت تملك من الكفاءات والكوادر ما يُمكن البناء عليه. لكنها لا تستطيع أن تتحمل وحدها تبعات قرارات غير مدروسة أو مؤشرات غير مفسّرة، في ظل غياب الهيئات الرقابية والمجالس الحاكمة التي وُجدت أصلاً لحمايتها ومساندتها.

إن الخلل ليس في الجامعات، بل في من غابوا حين احتاجهم الميدان. فيمن صمتوا حين اشتدّ الجدل. في مؤسسات يفترض أن تكون صوت العقل والتقييم، لكنها فضّلت الغياب، أو أُجبرت عليه. إن التعليم العالي لا يحتاج إلى مؤتمرات ولا تصريحات إعلامية، بل إلى مؤسسات حيّة، قادرة على ممارسة دورها، والوقوف أمام الوزراء قبل الجامعات، حين تُطرح مؤشرات أو تُطلق أحكام لا تستند إلى مسار علمي دقيق.

نحتاج اليوم إلى هيئة رقابية فاعلة، ومجالس حوكمة تُستعاد لها صلاحياتها، ومجلس بحث علمي يُنشأ ليكون الجهة المعنية بأي تقييم بحثي أو أكاديمي. نحتاج إلى أن تستعيد مؤسسات التعليم العالي استقلالها، لا أن تكون هي الطرف الأضعف حين تثار القضايا، ويُبحث عن مسؤولية.

فالجامعات لا تُبنى بالتصريحات، ولا تُحاسب بالمؤشرات المجتزأة. بل تُبنى بالمؤسسات. والمؤسسات لا تكون حقيقية إلا حين تكون حاضرة حيث يجب، وصريحة حين يلزم، وفاعلة لا شكلية.

وطننا بخير، وتعليمنا العالي بخير… والباقي هامش.

مواضيع قد تعجبك