خبرني - في خطوة إدارية تثير التساؤلات، اتخذت الحكومة الأردنية قرارًا بحل المجالس البلدية ومجالس المحافظات المنتخبة، وتكليف لجان حكومية بإدارتها مؤقتًا. وقد بررت القرار بأسباب مالية وإدارية، أهمها ارتفاع مديونية البلديات إلى أكثر من 630 مليون دينار، وفشل بعض المجالس في تقديم أداء تنموي فاعل.
لكن حجم القرار، وتوقيته، وشموليته، كلها مؤشرات تدفعنا إلى طرح أسئلة تتجاوز البعد المالي الظاهر، وتذهب نحو تحليل أعمق لمسار الدولة في إدارتها للشأن المحلي ومستقبل الديمقراطية التمثيلية في الأردن.
ما جرى، في جوهره، قد يكون مقدّمة لتحوّل استراتيجي أكبر، ربما يعيد تموضع الدولة حول "عقيدة المركزية" بعد سنوات من الترويج لمبدأ اللامركزية وتعزيز المشاركة الشعبية في الحكم المحلي. فإلغاء الهيئات المنتخبة لا يمكن أن يُفهم فقط بإعتباره تصحيحًا لأخطاء إدارية، بل يبدو أقرب إلى إعادة ضبط سياسية شاملة للمشهد المحلي، تتداخل فيها اعتبارات الأمن، والمخاوف من نفوذ محتمل، وتحديات الشرعية، والتكلفة السياسية للإنتخابات.
وفي هذا السياق، هل يُطرح مجددًا – وربما بصمت – مشروع "الأقاليم الثلاثة"، الذي طالما قوبل بالتحفّظ الشعبي والسياسي، والذي قد يجد اليوم غطاءً إداريًا مقبولًا في ظل غياب المجالس المنتخبة وتنامي مركزية القرار.وهنا نجد الحاجة ملحة لطرح اسئلة لأصحاب القرار وترغب بشدة الإجابة ، فهل نحن أمام تصحيح ظرفي تُمليه الضرورات؟ أم أننا ندخل في مرحلة إعادة هندسة جديدة للدولة الأردنية، تقوم على مركزية محسوبة وتفويض محدود للمجتمعات المحلية؟
وهل تم احترام القواعد القانونية الناظمة لهذا النوع من القرارات، أم أن الحاجة السياسية غلبت الإعتبارات القانونية؟
ونسأل بصراحة القانون ووضوح النصوص،هل كان قرار حل المجالس المنتخبة مدفوعًا فقط بالضرورات المالية؟ أم أن هناك تحولًا في العقيدة الإدارية للدولة ؟ خاصة وأن قانون الإدارة المحلية رقم 22 لسنة 2021 يؤكد صراحة في المادة (3) أن هذه المجالس وجدت لتعزيز التمكين المحلي والمشاركة الشعبية، وليس لتعطيلها أو اختزالها في لجان.
و هل نملك تقييمًا رقابيًا موثقًا لأداء المجالس المنحلة؟ أم أن القرار استند إلى انطباعات أمنية أو حسابات سياسية؟ علماً بأن المادة (6/هـ) من قانون الإدارة المحلية، والمادة (55) من قانون البلديات، لا تجيز حل المجالس إلا إذا ثبت عليها العجز أو ارتكاب مخالفات جسيمة، وهو ما يستلزم أدلة موثقة لا افتراضات سياسية.
و هل يتناسب القرار الشامل بحل جميع المجالس مع مبدأ التناسب الذي أقرّه القضاء الإداري الأردني؟
ألا يُعد القرار تعميمًا ويحتاج لإستفسار قانوني، أليس هنالك قاعدة أن كل مجلس يجب أن يُقيَّم بناءً على أدائه الفردي لا وفق انطباع جمعي؟؟
هل تم فعليًا رصد نشاط متزايد لنفوذ ما داخل هذه المجالس؟ وإن صح ذلك، هل الأجدى مواجهة هذا التحدي السياسي عبر الإلغاء الكامل، أم عبر تفعيل أدوات الرقابة والمساءلة كما يتيحها القانون؟
وهل بات التمثيل الشعبي يُنظر إليه كعبء سياسي يجب ضبطه إداريًا؟
و هل هناك رؤية واضحة تُعرض على المواطنين حول ما بعد اللجان؟ و من الذي سيملأ هذا الفراغ التمثيلي؟ وأين تقع اللجان المعيّنة من نصوص الدستور التي رسّخت حق المواطنين في اختيار ممثليهم المحليين وفقا للمادة( 121)؟ أم أننا بصدد تهميش تدريجي لفكرة التمثيل واستبدالها بفكرة التعيين المؤقت دون سقف زمني؟
و هل يجري التمهيد فعليًا لإحياء مشروع "الأقاليم الثلاثة"؟ بكل ما له وما عليه ؟ وإن صح ذلك، هل تم احترام حق المواطنين في مناقشة هذا التوجه؟ وهل يمكن فرض مشروع بهذا الحجم في غياب المجالس المحلية التي كانت تمثل حلقة الوصل بين الدولة والناس؟
و هل يمكن الحديث عن "تحديث سياسي" في ظل تغييب أدوات التمثيل الشعبي؟ أليست الديمقراطية، كما يعرفها الدستور، هي نظام حكم قائم على المشاركة والثقة لا على التفويض المغلق؟
وكيف يمكن التوفيق بين هذا القرار وبين إلتزامات الأردن الدولية (كشريك في اتفاقيات الحوكمة المحلية والتحديث السياسي مع الإتحاد الأوروبي)؟
و هل يوجد سقف زمني محدد للجان؟ ومتى تعود الإنتخابات؟ أم أن القرار ترك هذا الباب مفتوحًا، مما يعمق المخاوف من تحوّل المؤقت إلى دائم؟
في الختام، إننا نطرح هذه الأسئلة بإيمان تام بأن الدولة الأردنية لا تزال تملك من الحكمة والمرونة ما يكفي للإستماع، والإصلاح، والتعديل إذا لزم الأمر.
فالديمقراطية لا تُقاس فقط بوجود صندوق اقتراع، بل بوجود نية صادقة لمنح المواطن دوره في بناء القرار ومحاسبته. إن ما بين السطور القانونية والسياسية لهذا القرار، ليس مجرد إعادة توزيع إداري، بل اختبار حقيقي لإرادة الإصلاح.




