خبرني - في وقتٍ كانت فيه حفلات الزفاف تُعدّ علامة ازدهارٍ اجتماعي، وحدثًا تتكاتف فيه العائلة والمجتمع، بات تراجعها في الأردن مشهدًا يبدو اعتياديًا. ليس لأن الناس اكتفوا بالبساطة، بل لأن الزواج نفسه أصبح تحديًا وخيارًا صعبًا. لم يعد العزوف عن الزواج مجرّد قرار فردي، بل على ما يبدو يتحول عبر السنين إلى ظاهرة اجتماعية واقتصادية تتسع ببطء، وتترك آثارًا صامتة وعميقة على بنية المجتمع ككل.
حيث اشارت التقارير الرسمية إلى تراجع عقود الزواج في الأردن بنسبة15% بين عامي 2021 و2022، ثم بنسبة إضافية بلغت 7% في عام 2023. ان هذا التراجع لا يعكس تأجيلا فقط لمشروع الزواج، بل قد تعكس فقدان الثقة في قدرة المجتمع على تأمين الظروف التي تجعل من الزواج مشروعًا ممكنًا ومستقرًا وناجحا اخذين في الاعتبار نسب الطلاق وأعبائه المختلفة أيضًا.
يواجه الشباب واقعًا اقتصاديًا واجتماعيًا صعبًا بما في ذلك، بطالة متزايدة، دخول منخفضة، وارتفاع مستمر في تكاليف السكن والمهور ومستلزمات الحياة الزوجية والالتزامات الاجتماعية المختلفة. في ظل ضعف او احيانًا غياب سياسات حقيقية تخفف وطأة تكاليف تكوين الاسرة، لم يعد الزواج خطوة طبيعية في مسار الحياة، بل تحوّل إلى عبء نفسي ومالي يثقل كاهل الشباب، بل وأصبح في نظر كثيرين مخاطرة قد تزعزع استقرارهم بدل أن تعززه.
لكن أخطر ما في الأمر أن هذا العزوف لا يتوقف عند أعتاب البيوت المغلقة او عند الافراد أنفسهم، بل يمتد ليترك اثاره السلبية على المجتمع بأكمله. فالعزوف عن الزواج يعني اما التأخر في تكوين الأسر او عدم تكوينها اصلاً، وتراجع في معدلات الإنجاب والنمو السكاني، وضعف شبكة العلاقات الاجتماعية التي تؤدي الى تناقص في الدعم والتكافل المجتمعي. في المقابل، يزداد شعور الافراد بالعزلة والوحدة، وتجنب الفرد التفاعل والمشاركة في أنشطة الحياة الاجتماعية العامة، سواء على مستوى العلاقات الشخصية أو الانخراط في الأنشطة المجتمعية، ويؤدي ذلك الى مواجهة الشباب لتحديات نفسية كبيرة تتراوح بين الاكتئاب والعزلة والفراغ العاطفي.
اما في السياق الاقتصادي، يؤدي العزوف عن الزواج الى ضعف الطلب على قطاعات حيوية مثل العقارات، والأثاث، والمشاريع الصغيرة المرتبطة بتزويد متطلبات الحياة الزوجية، مما ينعكس سلبًا على الدورة الاقتصادية المحلية. كما أن انخفاض النمو السكاني، يؤدي مستقبلاً الى انخفاض في القوى العاملة، وزيادة في نسبة كبار السن، مما يهدد توازن التركيبة السكانية، ونظام الضمان الاجتماعي على المدى البعيد.
وفي العمق، فإن المجتمع الذي يفقد وتيرة الزواج الطبيعية، لا يفقد فقط شكلاً من أشكال العلاقة، بل يضعف البنية الأساسية له. فالعائلة ليست مجرد وحدة اجتماعية، بل نظام تربوي، وعاطفي، واقتصادي، يُعيد تشكيل وإنتاج القيم والاستقرار، وفي حالة استمر ترجعها، تتآكل منظومة الانتماء، ويُصبح الفرد أكثر هشاشة أمام التغيرات.
سواء في تراجع نسب عقود الزواج أو في تفاقم مشاكل الأسر القائمة، تبدو مؤسسة الأسرة اليوم أمام اختبار حقيقي. فبين عزوف الشباب عن الزواج وتزايد حالات التفكك داخل العلاقات الزوجية، لا يعود غياب الارتباط مجرد استراحة من الأعباء الاقتصادية والاجتماعية، بل يتحوّل إلى مؤشر عميق على أزمة بنيوية تتفاقم بصمت. إنها إشارة إلى أن جزًا لا يستهان به من الشباب يتنازل عن حقّه الطبيعي في بناء علاقة مستقرة، وأن المجتمع يمرّ بتحوّل جوهري في مفهوم الأسرة، والعلاقة، ومعاني الأمان، والاستقرار.
السؤال الآن ليس فقط كيف نُعيد الشباب إلى طريق الزواج، بل كيف نُعيد للزواج معناه، ونجعله مشروعًا إنسانيًا واقعيًا، لا حِلمًا باهظ الثمن ولا عبئًا يخشاه الجميع.




