*
الجمعة: 19 ديسمبر 2025
  • 27 حزيران 2025
  • 23:04
القيمة التي فُقِدت من الدرجة الجامعية الأولى البكالوريوس
الكاتب: أ.د. نزار الطرشان

خبرني -  

   إن الدرجة الجامعية الأولى تُعد حجر الأساس في البنية الأكاديمية للجامعات,وتتمتع ببناء قيمي عال، وهي المدخل الحقيقي والأول للتعليم العالي، إذ تُشكل القاعدة التي تُبنى عليها المراحل التعليمية اللاحقة كالماجستير والدكتوراه. من هذا المنطلق، دأبت الجامعات على تأهيل كوادر أكاديمية ذات كفاءة عالية، تضع الخطط الدراسية وتُدرّس الطلبة وفق معايير أكاديمية رصينة، بهدف تخريج طلاب متميزين في تخصصاتهم.
   عند تأسيس الكليات، كانت رؤية الجامعات تقوم على تأسيس تخصصات وأقسام تخدم المجتمع وتراعي ثقافته، دون أن يكون الهدف مادّيًا بحتًا. بل كان المقصد الأسمى هو تخريج أجيال من الكفاءات العلمية في تخصصات مهمة وملائمة لاحتياجات المجتمع وتتمتع بحظور مجتمعيي يراعي ثقافته.
  إلا أن هذا التوجه بدأ بالتغير في الآونة الأخيرة؛ حينما اتجهت بعض الكليات لاستحداث تخصصات لا تمت بصلة لثقافتنا وعاداتنا وقيمنا، ولا تستند إلى حاجة حقيقية، بل زُعِم أنها مطلوبة في سوق العمل. هذه التخصصات، التي غالبًا ما يقبل عليها طلبة بمعدلات متدنية في الثانوية العامة، أصبحت تُفرض عليهم برسوم مرتفعة لتُضفي عليها قيمة مزيفة.
  والنتيجة؟ تراجع هيبة الدرجة الجامعية الأولى، وتراجع مستواها، بسبب هذا التساهل في اعتماد تخصصات لا تملك مقومات أكاديمية حقيقية، وتُدرّس في كثير من الأحيان من قِبل كوادر لا تمتلك التأهيل العلمي الكافي، بل تعتمد على دورات قصيرة لمدرسيها أو خبرات عملية .كأن بكون المدرس مثلا (طاه في مطعم  او نجارا .... مع تقدبري لتلك المهن, والتي لا تؤهل صاحبها ان يكون من كوادر الجامعات الاكاديمية) صاحب خبرة عملية, ولا يحمل درجة جامعية عليا في تخصصه او خبراته بما يتنافى مع العصب الاكادبمي للجامعة .  
التخصصات الطارئة وتأثيرها:
   إن بعض الكليات استحدثت تخصصات جديدة بحجة مواكبة متطلبات سوق العمل، في حين أن هذه التخصصات بعيدة كل البعد عن ثقافتنا وعن سوق العمل المزعوم، بل وينبذها المجتمع أحيانًا. ولعل القبول بها لا يتم إلا على مضض، تحت مبرر "على الأقل نحصل على شهادة جامعية". المؤلم في الأمر أن هذه التخصصات غالبًا ما تستقطب الطلبة الأضعف أكاديميًا، وتُفرض عليهم رسوم مرتفعة، وكأن الجامعات تحاول أن تخلق وهمًا بأهميتها الأكاديمية.
 وبذلك، فإن الدرجة الجامعية الأولى فقدت الكثير من قيمتها، بعد أن أصبحت تُمنح في تخصصات     لم تُدرس بعناية، بل أُنشئت وفق أهواء البعض وتفردهم باتخاذ قرار تكوينها لينالوا   رضى مرؤسيهم وحبا في الظهور بمظهر الإنجاز الارعن، ودون تأمين البنية التحتية أو الكوادر التدريسية المؤهلة لها في كثير من الأحيان،و يُدرّس هذه التخصصات أناس لا يحملون مؤهلات أكاديمية فيها، بل خضعوا لدورات قصيرة، وأصبحوا "خبراء" يُؤهلون غيرهم للحصول على درجة جامعية في مجال لا يمتلكون فيه أصلًا التأهيلل الجامعي الحقيقي.

الآثار والسياحة نموذجا:
  ولتقريب الفكرة، أستعرض مثالًا من واقع أعرفه جيدًا، وهو ما حدث في  بعض كليات الآثار. فبعد أن نشأت معاهد الآثار وتطورت لتصبح كليات، ظهرت فكرة إنشاء أقسام للسياحة، باعتبار أن السياحة مرتبطة بالآثار. في البداية، تم إعداد خطط دراسية مشتركة، لتوحيد الجهود بين التخصصين.
لكن سرعان ما تنكر بعض أصحاب تخصص السياحة لهذه العلاقة، وأخذوا يفصلون أنفسهم عن الآثار، بل سعوا لوضع خطط مستقلة، وكأن التخصصين لا يربط بينهما شيء. وهكذا، أصبحنا أمام تخصصين يعملان في ذات المبنى، لكن بينهما فجوة عميقة صنعتها أنانية أكاديمية.
الغريب أن هؤلاء تجاهلوا حقيقة واضحة، وهي أن الآثار في الدول العربية  مثلا هي – في معظمها  المصدر السياحي  الأول ان لم يكن الأوحد. فالسائح لا يأتي إلى الأردن مثلًا ليشاهد الشواطئ أو الفنادق أو الصحارى، بل يأتي ليرى البترا، وجرش، وأم قيس، وغيرها من المواقع الأثرية. ومع ذلك، تجد خريج السياحة والضيافة والفعاليات اليوم لا يعرف شيئًا عن تلك المواقع،  ويجهلها جهلا مطبقا لأنه أمضى سنوات دراسته في تعلّم حجوزات الفنادق والسفر والضيافة واضرابها ، وهو أمر يمكن تعلّمه في دورة لا تتعدى أسابيع قليلة.
المهزلة الإدارية والتطفل على تخصصات راسخة:
ومن المضحك المبكي أن تُسند إدارة كليات الآثار والسياحة لأشخاص من تخصصات  ما يسمى"الإدارة السياحية" وصويحباتها من نفس السياق، رغم أنهم لم يدرسوا مادة واحدة في الإدارة. والأسوأ من ذلك، أن هؤلاء راحوا يخلقون تخصصات فرعية مثل "إدارة الضيافة" و"إدارة الفعاليات" و"إدارة المناسبات"، وجميعها لا علاقة لها بالإدارة العلمية الحقيقية.
فهل إدارة فندق أو مطعم تتساوى مع إدارة شركة أو مؤسسة كبرى؟ إن تخصص إدارة الأعمال يُدرس في كليات عريقة، وله بناء أكاديمي واضح، لكن أولئك يحاولون اختراقه بلبوس سطحي لا يمت بصلة للعلم ولا الإدارة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل راحوا يضيفون تسميات براقة مثل "التسويق السياحي"،  والضيافة وإدارة الفعاليات ....وغيرها من مسميات  فارغة  كل ذلك مشفوعا بكلمة إدارة ,وهم لايعرفون  من الإدارة الا اسمها فقط ليضفوا على تخصصاتهم الهزيلة طابعًا علميًا مزيفًا . ولم يدرس حتى دعاتها مواد في إدارة الاعمال فهم طارؤن على الإدارة المدعاة حتى ان تخصص إدارة الأعمال يتبرأ من تلك التخصصات ولا يدرجها في مناهجهه الرصينة ولا يعترف فيها أصلا كتخصصات مستقلة. 
واقتبس من مقالة على الجزيرة نت بخصوص بعض التخصصات ما يلي:( 10 تخصصات على الجامعات التوقف عن تدريسها للكاتب محمد سناجلة بتاريخ 23/9/2024)
)في عالم وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات المتخصصة في السياحة والسفر مثل "بوكينغ" و"أغودا" وغيرها الكثير فإن الحاجة لتخصصات مثل السياحة والسفر والترفيه والضيافة لم يعد له معنى، حيث يستطيع أي شخص أن يحجز بسهولة لأي بلد أو مكان يريد السفر إليه، كما يستطيع الحصول على أرخص التذاكر، وأفضل حجوزات الفنادق من خلال هذه المنصات دون الحاجة لدفع المال لمكاتب السياحة والسفر، أيضا يستطيع السائح أو المسافر الحصول على ما يريد من المعلومات عن الأماكن السياحية والأثرية التي يريد  زيارتها، وغالبا ما يشكو موظفو وكالات السفر من أجورهم الضئيلة، وجداول العمل غير المنتظمة، وقلة العملاء. وهي في مجملها لا تصلح أن تكون درجة جامعية فيكفي لها في أحسن الأحوال دورة لا تتعدى الشهور الثلاثة عند الضرورة. كتخصص مستقل لا طائل منه، ولا تحتاج إلى درجة علمية للحصول على هذه المعرفة. ومع ذلك، يمكنك الالتحاق بدورات مختلفة(
ولازال الهوى عند بعض الأدعياء بفتح أقسام وبرامج في الجامعات من هذا النوع المهترئ. مما سيحط من (قيمة) الشهادة الجامعية الأولى.
والأسوأ أنهم يعجزون حتى عن تدريس هذه التخصصات، فيستعينون بأقسام اللغة الإنجليزية لتدريس مواد الضيافة والفعاليات ...الخ بحجة أنها تُقدَّم باللغة الإنجليزية! فأي مهزلة أكاديمية هذه؟
ومن الغرائب أن مواد مثل "إدارة الضيافة"  والفعاليات المزعومة أصبحت تُفرض كمتطلبات إجبارية على طلبة أقسام الآثار والتراث، وكأن الهدف من دراسة الطالب للآثار هو أن يصبح "نادلاً" أو "سفرجيًا" أو طاهيًا في الحفرية الأثرية او منظما لحفلة عرس كفعالية مدعاة! مع كامل الاحترام للمهن المذكورة، لكنها لا تمت بصلة لتخصص أكاديمي رصين هدفه الحفاظ على الهوية الوطنية وتوثيق التراث.
فهل يعقل أن يُهان الطالب الذي يُفترض أن يكون أمينًا على تراث الأمة بهذا الشكل؟ هل هذا ما نريده من "الدرجة الجامعية الأولى"؟ لقد تحولت تلك الدرجة إلى سلعة، فقدت قيمتها وهيبتها، بسبب تخصصات هجينة ومفروضة.ناهيك عن تدريس عدد من المواد لتلك التخصصات الطارئة مكررة  فيها بشكل فج ولايعطيها تفردا متخصصا ومميزا .
دعوة للمراجعة:
إن ما يحدث من فتح أقسام وبرامج جديدة بلا( قيمة علمية )حقيقية يُشكل خطرًا كبيرًا على مستقبل التعليم الجامعي. وعلى الإدارات الجامعية العليا ووزارات التعليم العالي أن تعيد النظر في هذه التخصصات، وأن تعمل على فصلها على الاقل تمامًا عن التخصصات الأصيلة كعلم الآثار والمصادر التراثية او حتى الغاء تلك التخصصات وعدم السعي خلف البعد المالي حتى لا ننحدر اكثر في قيمة الدرجة الجامعية الأولى .
فالدرجة الجامعية الأولى كانت – وما زالت – قيمة راسخة في الوجدان الأكاديمي، يجب صونها من الابتذال والتجريب والأهواء النرجسية. ولن تقبل المجتمعات ولا الجامعات أن تنحدر تلك القيمة أكثر مما انحدرت.
فهل ستتحرك الإدارات الجامعية لحماية هذه(القيمة )قبل فوات الأوان؟

أ.د. نزار الطرشان
كلية الآثار والسياحة – الجامعة الأردنية

مواضيع قد تعجبك