لطالما كانت الشعوب تمر بمراحل ازدهار ثم أفول، لكن التاريخ لا يرحم الكيانات المصطنعة، ولا يتساهل مع الدول التي تُبنى على أنقاض الآخرين. واليوم، تدور في أروقة السياسة الإسرائيلية وفي عقول النخب الصهيونية تساؤلات مرعبة:
> هل دخلنا "العقد الثامن"؟ وهل ستحل بنا اللعنة التي ابتلعت غيرنا؟
أسطورة العقد الثامن: هاجس الزوال في اللاوعي اليهودي
في الثقافة العبرية، يترسخ مفهوم "لعنة العقد الثامن" – وهي قناعة تاريخية بأن الدول اليهودية السابقة (مملكة داوود وسليمان، ثم مملكة الحشمونائيم) لم تصمد أكثر من 70 إلى 80 عامًا قبل أن تنهار، إما بفعل التفسخ الداخلي أو الضربات الخارجية.
إسرائيل، التي تأسست عام 1948، دخلت العقد الثامن منذ عام 2023، وها هي اليوم (في 2025) تقف على مفترق طرق، تحاصرها الأزمات من كل اتجاه، وتضربها الضغوط من الداخل والخارج، وكأن شبح تلك اللعنة القديمة يزحف نحوها بثقلٍ لاهث.
تفكك داخلي: هوية ممزقة ومجتمع مفخخ
إسرائيل تعيش تمزقًا داخليًا غير مسبوق:
العلمانيون في صدام مع الحريديم.
اليمين المتطرف في صراع مرير مع الليبراليين.
اليهود الشرقيون في حالة تهميش تاريخي أمام الأشكناز.
حتى داخل البيت الصهيوني، لم يعد هناك بيت مشترك.
الاحتجاجات الواسعة ضد "الإصلاح القضائي" عامي 2023 و2024 كانت مجرد رأس جبل الجليد، تحتها بحر من الغضب والتناقضات والصراع على معنى "الدولة" نفسها:
هل هي يهودية ديمقراطية؟ أم دينية توراتية؟ أم مجرد كيان وظيفي يعيش فوق برميل بارود؟
التهديدات من الخارج: المقاومة تغير قواعد اللعبة
الخطر على إسرائيل لم يعد فقط خارجيًا، بل استراتيجيًا في العمق:
غزة لم تعد عبئًا محاصرًا، بل جبهة عصيّة على الكسر.
حزب الله يملك قوة نارية تُربك أي غرفة عمليات إسرائيلية.
إيران لم تعد تهديدًا نظريًا، بل خصمًا يضرب بدقة في العمق الإسرائيلي.
والداخل الفلسطيني بات أكثر وعيًا وتنظيمًا ورفضًا لواقع الاحتلال.
الضربة الإيرانية الأخيرة، التي اخترقت العمق الاستراتيجي الإسرائيلي، زرعت الخوف في نفوس الإسرائيليين لأول مرة منذ عقود:
> "السماء لم تعد آمنة... فكيف بالأرض؟"
الدولة تنهار من الداخل لا من الخارج
الدول لا تنهار من الحروب فقط، بل من التآكل الداخلي.
واستطلاعات الرأي الإسرائيلية تُظهر أن 58% من المواطنين يعتقدون أن "الديمقراطية في خطر"، وربعهم يُفكرون بالهجرة. هذه ليست مؤشرات دولة قوية، بل أعراض دولة تترنح.
رئيس الموساد الأسبق تامير باردو قالها صراحة:
> "إن استمرت الانقسامات، فلن تصل إسرائيل إلى عامها المئة".
الدماء البريئة وظهور المُخلّص: حين يفور الظلم، يُفتح باب السماء
ما يُعقّد المشهد أكثر أن الدماء المسفوكة اليوم في غزة والضفة ولبنان، وخصوصًا دماء النساء والأطفال، باتت تلامس مستوى "الخطيئة الجماعية".
الكتب السماوية كلها تتحدث عن لحظة انفجار كونية حين يفيض الظلم:
في العقيدة الإسلامية، يُمهَّد لظهور المهدي بزمنٍ يكثر فيه القتل وتضيع فيه العدالة وتُستباح الحرمات.
في العقيدة اليهودية، يظهر المسيّا حين تنهار الدولة وتفشل الحكومات ويعمّ الشك والتفكك.
وفي العقيدة المسيحية، عودة المسيح تسبقها فوضى ومذابح وجوع، وتنهار فيها الأنظمة الزائفة.
والسؤال:
> ألا تعيش المنطقة اليوم كل تلك الملامح؟
ألا يكون المخلّص قريبًا حين تبلغ المأساة ذروتها؟
ليس المخلّص هنا بالضرورة رجلًا يظهر من الغيب، بل قد يكون لحظة يقظة، أو أمة تنهض، أو عدالة تتفجّر بعد طول صمت.
في العقيدة اليهودية: المسيّا المخلّص لا يأتي بسلاح الدولة
في العقيدة اليهودية، يؤمن أتباع الديانة بظهور "المسيّا" (المشيح ) في آخر الزمان، وهو ملك مخلِّص من نسل داوود، يُرسل من الله ليُعيد مجد مملكة إسرائيل، ويُقيم السلام ويُعيد بناء الهيكل الثالث، ويجمع اليهود من الشتات.
لكن المفارقة أن التيارات اليهودية الأرثوذكسية التقليدية ترى أن المسيّا لا يأتي عبر القوة أو الدولة، بل يظهر فقط حين تتوب الأمة وتعود إلى الشريعة. ولذلك، يعتبر كثير من الحاخامات أن قيام دولة إسرائيل عام 1948 قبل مجيء المسيّا هو خطيئة دينية وتمرد على المشيئة الإلهية.
بل إن بعضهم يذهب إلى أن الكوارث والمجازر والانقسامات التي تضرب إسرائيل هي علامات غضب إلهي على مشروع دنيوي ملوّث بالدم، وأن الخلاص الحقيقي لا يمكن أن يأتي من جيش أو حكومة، بل من السماء… فقط حين يحين الوقت الإلهي.
حين تبلغ المأساة ذروتها... يبدأ التاريخ بالانتقام
ليست "لعنة العقد الثامن" خرافة ولا أسطورة شعبية، بل هي انعكاس لقانون كوني أبدي:
> أن الدول التي تُقام على القتل والتهجير، لا تعمّر طويلًا.
وأن الدم المسفوك ظلمًا لا يضيع، بل يكتب نهايات تُدوَّن في وجدان الزمان.
إسرائيل اليوم لا تحارب غزة فقط، بل تحارب فكرة العدالة، وتحاول إطفاء نورٍ يولد كل يوم من بين الأنقاض.
لكن كلما زادت المجازر، كلما أصبح سؤال النهاية أكثر واقعية،
وكلما اقتربت فكرة "المخلّص" من أن تتحوّل إلى حقيقة لا تُقاوم.
فالتاريخ لا ينام، والدم لا يُغفر،
وكل من راهن على قوة السلاح ضد صوت الضحية...
خسر في النهاية، مهما طال الزمان.




