خبرني - «أولئك الذين يعرفون إيران وتاريخها لا يخاطبونها بلغة التهديد، فالأمة الإيرانية لا تستسلم». خامنئي.
تتراود في ذهن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي ذكريات مؤلمة لسلفه الإمام الخميني، عندما نطق بعبارته الشهيرة: "إنني أتجرع كأس السم"، وذلك عقب موافقته على إنهاء القتال مع العراق في عام 1988، بعد حرب طاحنة استمرت ثمانية أعوام عجاف. في ذلك الوقت، دافع الخميني عن قراره المؤلم بأنه خيار حتمي لحفظ مكتسبات الثورة وضمان بقاء المصالح الإيرانية. غير أن خامنئي لا يلبث أن يزيح هذه الذكريات المؤلمة من خاطره، ليعود إلى مواجهة واقع راهن يتسم بالتعقيد الشديد، حيث يجد نفسه محاطًا بخيارات جميعها محفوفة بالمرارة والصعوبة.
يواجه خامنئي ضغوطًا جبارة ومتنامية، خاصة بعد أن تجرأ الطيران الصهيوني على انتهاك السيادة الإيرانية واختراق أجوائها، منفذًا سلسلة من الهجمات المدمرة والمؤلمة التي طالت أهدافًا حيوية. هذه الضربات شملت اغتيال القائد العام لجيشه، تلاه بعد ساعات قليلة اغتيال خليفته، بالإضافة إلى تصفية أكثر من عشرين شخصية من كبار القيادات العسكرية والسياسية. هذه السلسلة المتتالية من الضربات الموجعة وضعت نظامه في موقف محرج أمام الشعب الإيراني وأمام المجتمع الدولي بأسره.
يتمتع الكيان الصهيوني بقوة جوية متقدمة تتفوق بشكل كاسح ومطلق على القدرات الجوية الإيرانية، في حين أن الجماعات المسلحة الموالية لطهران والمنتشرة في المنطقة لا يُتوقع منها أن تحقق تغييرًا جوهريًا أو حاسمًا في موازين القوى العسكرية الراهنة. في مواجهة هذا الخلل الواضح في ميزان القوى، يجد خامنئي نفسه مضطرًا للمفاضلة بين ثلاثة خيارات استراتيجية مصيرية: إما الدخول في مواجهة عسكرية شاملة ومفتوحة، أو السعي لحل الأزمة عبر القنوات الدبلوماسية والتفاوض، أو التوجه نحو تطوير واستكمال برنامج الأسلحة النووية.
يقرر خامنئي البدء بتجربة الحل الدبلوماسي، فيأمر باستدعاء مفاوضه البارز ونائبه في المفاوضات علي شماس، لكنه يُصدم بالنبأ المروع: الإسرائيليون قد نفذوا عملية اغتيال ضده أيضًا. يا لسخرية القدر! هذا الرجل نفسه الذي أعلن قبل أشهر قليلة عن استعداد إيران للتخلي عن طموحاتها النووية والعمل على تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، يُستهدف بعملية اغتيال. هنا تترسخ في ذهن خامنئي قناعة راسخة بأن الهدف الحقيقي للعدوان ليس البرنامج النووي الإيراني فحسب، بل النظام الإيراني برمته، وأن أي عودة إلى طاولة المفاوضات ستشكل هزيمة ساحقة لإيران وبداية انهيار النظام. وهو الذي صرح قبل عقدين من الزمن بأنه يفضل الاستقالة من منصبه على التخلي عن البرنامج النووي الإيراني.
ينتقل خامنئي بعد ذلك إلى دراسة الخيار الثاني: الإسراع في إنتاج السلاح النووي الإيراني. هنا يتملكه شعور عميق بالندم والأسى لأنه أصدر في وقت سابق فتوى دينية تحرم تصنيع وإنتاج الأسلحة النووية. يتحدث مع نفسه قائلًا بمرارة: "كان عليّ أن أستمع جيدًا إلى الأصوات التحذيرية التي نبهتني إلى خطورة الموقف، مثل النائب علاء بروجردي، الذي أعلن صراحة وعلنًا: نحن في أمس الحاجة إلى قوة ردع جديدة وفعالة لمعاقبة الكيان على أفعاله". يصدر خامنئي أوامره الفورية للعلماء المتبقين من برنامجه النووي بالبدء الفوري في تصنيع قنبلة نووية بدائية، ثم يلتفت نحو مساعده الخاص ويسأله بقلق: "هل شرعنا فعلًا في إنتاج القنبلة النووية؟"
على الجانب الآخر، بدأت تتعالى في الكيان أصوات متشددة تروج للخيار النووي كحل للمواجهة، لكن هذه الأصوات تواجه عائقًا كبيرًا يتمثل في حقيقة أن استخدام السلاح النووي يتطلب موافقة وإجماع القوى العظمى في العالم، وهو أمر محال الحدوث خاصة مع الرفض القاطع من جانب الصين وروسيا. بل إن باكستان قد تضطر للرد بقوة على أي هجوم نووي، لأنها تدرك جيدًا أنها ستكون الهدف التالي حتمًا بعد إيران. أما إيران نفسها، فقد تبادر بالرد النووي، خاصة في ضوء التقارير الاستخباراتية التي تشير إلى امتلاكها أسلحة نووية بالفعل. وفي أدنى التقديرات وأقل الاحتمالات، فإن إيران ستلجأ حتمًا إلى استخدام القنابل الإشعاعية القذرة كوسيلة انتقام مدمرة.
يتبلور في وعي خامنئي إدراكٌ واقعي واضح بأن إيران تفتقر إلى القدرات العسكرية اللازمة لتحقيق نصر حاسم في مواجهة عسكرية مفتوحة ومباشرة، إلا أنه يصل إلى قناعة راسخة بأن لا بديل أمامه سوى المضي قدمًا في المقاومة والصمود، وذلك من خلال تطبيق استراتيجية الإنهاك المتبادل وحرب الاستنزاف الطويلة المدى. يبرر خامنئي موقفه بالقول: "نعم، نحن نتعرض لضربات قاسية ومؤلمة، لكننا في المقابل نوجه للكيان الصهيوني ضربات أشد إيلامًا وأكثر تدميرًا. كلما امتدت فترة الحرب وطال أمدها، كلما تفاقم ضعف العدو وتآكلت قدراته، وكلما اقتربنا أكثر من إجباره على قبول وقف إطلاق النار، وهذا بحد ذاته يمثل انتصارنا الاستراتيجي الحقيقي."
يعول خامنئي في استراتيجيته على الخبرة التاريخية الثمينة التي راكمتها إيران عبر عقود من الحروب المطولة، مستحضرًا في ذاكرته تجربة الحرب مع العراق التي امتدت لثمانية أعوام طويلة، كما يعتمد بشكل أساسي على المزايا الاستراتيجية الفريدة التي تمنحها الجغرافيا الإيرانية الواسعة والمعقدة. يؤمن خامنئي بأن الكيان الإسرائيلي يفتقر إلى القدرة على الصمود في مواجهة حرب استنزاف مديدة، وأن عامل الزمن سيعمل حتمًا لصالح إيران. علاوة على ذلك، يراهن على الحصول على دعم خارجي منتظر من قوى عالمية مؤثرة مثل الصين وكوريا الشمالية وباكستان، مستندًا في ثقته إلى التصريحات الواضحة والصريحة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أكد بوضوح أن هذه الدول لن تقف مكتوفة الأيدي ولن تسمح للولايات المتحدة الأميركية بالوصول إلى حدودها الجغرافية.
في المقابل، يبني رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتن ياهو استراتيجيته على رهان مختلف تمامًا، حيث يؤمن بأن النظام الإيراني سينهار حتمًا ويتفكك من الداخل إذا تطاولت مدة الحرب وازدادت تعقيداتها. غير أن نتن ياهو يتجاهل عمدًا أو سهوًا حقيقة تاريخية مهمة، وهي أن النظام الإيراني عادة ما يزداد تماسكًا وقوة في أوقات الأزمات والتحديات الشديدة. مع ذلك، يضع نتن ياهو رهانه على احتمالية أن ينقلب الجيش الإيراني على النظام الحاكم إذا شعرت القيادات العسكرية بأن بقاء النظام ذاته أصبح في خطر وجودي حقيقي، وهو رهان قد يحمل في طياته شيئًا من المنطق والاحتمالية الواقعية.
أما فيما يتعلق بدخول الرئيس الأميركي دونالد ترامب على خط الصراع مجددًا، فإن تأثيره قد يكون محدودًا وغير حاسم في تغيير مجرى الأحداث. فعلى الرغم من أن ترامب مارس خلال فترة رئاسته الأولى أقصى درجات الضغط الاقتصادي والسياسي على إيران من خلال حملة "الضغط الأقصى"، إلا أن طهران نجحت في ذلك الوقت في الرد بقوة وفعالية، عندما قامت بتنفيذ هجمات جريئة ومحسوبة استهدفت المنشآت والمرافق النفطية الحيوية في منطقة الخليج العربي. واليوم، رغم أن إيران تبدو في وضع أضعف من ذي قبل وأقل قدرة على المناورة، إلا أن السؤال المحوري والملح يبقى: هل ستجد طهران في نفسها الجرأة والشجاعة لتكرار تلك المغامرات الخطيرة مرة أخرى؟
وفجأة، تتبلور في ذهن المرشد الأعلى فكرة ذكية ولامعة تضيء له طريقًا جديدًا للخروج من المأزق. يرتسم على وجهه ابتسامة ماكرة مشوبة بالسخرية، وهو يطرح على نفسه تساؤلًا استراتيجيًا مهمًا: "ماذا لو قررت الولايات المتحدة فجأة أن تمارس ضغوطًا حقيقية وفعالة على الكيان الإسرائيلي من خلال وقف تزويده بمنظومات صواريخ باتريوت الدفاعية المتطورة؟" في هذه الحالة، يدرك خامنئي أن الحرب ستنتهي فورًا وبشكل مفاجئ، دون الحاجة إلى مزيد من القتال والدمار.




