خبرني - جاء خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني أمام البرلمان الأوروبي ليعيد التوازن إلى لغة الخطاب الدولي، ويذكر بأن خلف كل قضية إنسانًا، وخلف كل حرب ألمًا، وأن القيم ليست مجرد كلمات تُقال، بل مسؤوليات يجب أن تُمارس.
اللافت في كلمة جلالته أنها لم تكن خطابًا سياسيًا فحسب، بل جاءت كوثيقة أخلاقية، صيغت بروح القيم، وبعين ترى الإنسان أولًا في زمن تهيمن فيه لغة القوة. وثيقة إنسانية تحمل رؤية متكاملة للسلام، وتحذّر من تصاعد الانهيار الأخلاقي، لا سيما مع استمرار الحروب، وتحديدًا ما يجري في غزة، والتصعيد الخطير بين إسرائيل وإيران، الذي وضع المنطقة على حافة مواجهة أوسع قد تمتد تبعاتها عالميًا.
الخطاب دعا أوروبا والعالم بأسره إلى اختيار الطريق الصحيح، طريق السلام العادل، والتعاون المشترك، بدلًا من منطق التشتت والانقسام، وأكد أن الأمن الحقيقي لا يقوم على الحروب، بل على القيم المشتركة والعدالة المتكافئة بين الشعوب. وحين قال جلالته: "عندما يفقد العالم قيمه الأخلاقية، نفقد حينها قدرتنا على التمييز بين الحق والباطل" فقد اختزل بهذه العبارة فلسفة الخطاب، إذ لا يمكن أن نصمت عن الظلم وندّعي الإنسانية في الوقت ذاته.
جلالة الملك لم يدع إلى حل سياسي فحسب، بل إلى صحوة ضمير، لأن ما هو على المحك اليوم ليس حدود الدول، بل حدود الأخلاق. فإذا ما استبيحت القيم، وصار الظلم أمرًا اعتياديًا، فإن الخطر لا يهدد منطقة واحدة، بل يهدد ضمير البشرية جمعاء.
الخطاب لا يخفي الشعور بالإحباط من تراجع القيم، ويعبّر عن قلق من أن العالم يسير نحو انحدار أخلاقي. وهذا ليس اعترافًا بالعجز، بقدر ما هو إنذار مبكر بأن هذا الانحدار لن يضر الفلسطينيين وحدهم، بل سيتوسع ليهدد الاستقرار العالمي.
لقد تجاوز الخطاب، بطابعه الإنساني العميق، السرديات السياسية التقليدية، ليخاطب الضمير العالمي بلغته الأصيلة، لغة العدالة، والرحمة، وكرامة الإنسان. فقد ركز جلالته على أن ما نشهده اليوم من أزمات، وفي مقدمتها المأساة المستمرة في غزة، لم يعد مجرد شأن سياسي، بل تحول إلى اختبار قيمي حقيقي للعالم بأسره، وخصوصًا للغرب الذي طالما تبنّى مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي.
ويمكن أن يكون الخطاب أيضًا رسالة موجهة إلى صناع القرار في أوروبا، في لحظة يشهد فيها الاتحاد الأوروبي تحولات سياسية مهمة، تزامنًا مع صعود تيارات اليمين وتبدل الأولويات الداخلية. وقد حرص جلالته على التذكير بالقيم التي تأسس عليها المشروع الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، تلك القيم التي اختارت السلام بدلًا من الانتقام، والقانون بدلًا من القوة، والتعاون بدلًا من الصراع.
لقد جاء خطاب جلالة الملك كرسالة تحذير وعزيمة في آنٍ واحد، تحذير من خطورة الاستمرار في تجاهل القيم، وعزيمة على مواصلة الدفاع عن الحق والعدالة، رغم كل التحديات.




