خبرني - ليست الثقافة في الأردن مجرّد حنين إلى الماضي، ولا هي طقس احتفالي نمارسه في المناسبات، بل هي روحٌ حية تنبض في تفاصيل حياتنا اليومية، وتُشكّل وعينا الجمعي، وتنسج ملامح هويتنا المتفرّدة. إنها القوة الهادئة التي تُعبّر عنّا دون ضجيج، وتنقل صورتنا للعالم كما نحن: شعوب تعتز بجذورها وتواقة للمستقبل.
في زمن تغيّرت فيه موازين القوة، ولم تعد الثروات الطبيعية وحدها قادرة على ضمان التقدّم، بزغ فجر الاقتصاد الثقافي كأحد أهم ركائز التنمية الشاملة. ومن هنا تبرز الحاجة لأن ننظر إلى ثقافتنا الأردنية نظرة جديدة، نُعيد من خلالها اكتشاف كنوزنا الرمزية والمادية، لا لمجرّد حفظها، بل لتحويلها إلى منتجات وخدمات تسهم في بناء الاقتصاد الوطني، وتفتح آفاقًا واسعة أمام شبابنا الطموح.
من ثقافتنا يمكن أن نصنع اقتصادًا متجدّدًا، يعيد للحرف اليدوية ألقها، ويمنح الفلكلور الأردني حياة معاصرة، ويحوّل الشعر النبطي والحكاية الشعبية إلى محتوى إبداعي رقمي ينافس عالميًا. ومن تراثنا يمكن أن نبني مستقبلًا لا يتنكّر لماضيه، بل يستمدّ منه طاقة الاستمرارية، ويصوغ من رموزه العتيقة لغةً يفهمها العالم بلغة اليوم، فنُعيد تقديم المطبخ الأردني في أرقى العواصم، ونُحوّل نقوش البتراء إلى تصاميم معمارية معاصرة، ونستخرج من عبق البوادي روحًا فنية تزيّن الشاشات والمهرجانات.
وفي ظل هذا الحراك، يمكن لهويتنا أن تكون أساسًا لقوة ناعمة، لا تُفرض بالقوة، بل تُحبّ وتُحتذى. فالأردن بما يملك من إرث حضاري وموقع جغرافي وتوازن ثقافي، قادر على أن يُقدّم نفسه للعالم ليس كدولة عابرة، بل كحالة ثقافية مؤثرة. الهوية الأردنية المعتدلة والمنفتحة، القادرة على التكيّف دون أن تذوب، تشكّل رافعة حقيقية نحو العالمية، إذا ما أُحسن تسويقها واستثمارها.
إن الاستثمار في الثقافة ليس رفاهية، بل ضرورة وطنية. هو استثمار في الإنسان، في قدرته على التعبير والابتكار، في حسّه الجمالي وانتمائه. فلنجعل من ثقافتنا جسراً لا جداراً، ومن تراثنا مشروع بناء لا متحفاً ساكناً، ومن هويتنا طاقة نور تُشعّ من الأردن نحو أفق أوسع..




