خبرني - يتأرجح الشرق الأوسط فوق خطوط تماس غير مرئية بينما تتحرك قوى إقليمية ودولية لرسم خرائط نفوذ جديدة تحت الدخان المتصاعد من طهران وصدى صفارات الإنذار في تل أبيب ، ما يحدث بين إسرائيل وإيران ليس مجرد تصعيد عابر في دورة العنف المعتادة في المنطقة ، بل قد يكون مؤشرا على تحول أعمق في المعادلات الجيوسياسية التي حكمت الاقليم لعقود ،بينما تتصاعد الضربات وتحولت التهديدات من الاعلام إلى الفعل فيما تقف عواصم المنطقة والعواصم الدولية على حافة مشهد غامض تتصارع فيه الرؤى والأهداف ويتراجع فيه منطق الردع التقليدي أمام موجات جديدة من الفعل الاستراتيجي الاستثنائي ،
فهل نحن على أعتاب التحول الجيوسياسي الأكبر في الشرق الأوسط؟ أم أن ما نشهده ليس سوى فصل جديد في سردية طويلة لم تُكتب نهايتها بعد؟
نعم تعيش المنطقة لحظة فارقة من التحول الاستراتيجي مع تصاعد المواجهة بين ايران واسرائيل وانفتاح سماء طهران امام ضربات عسكرية اسرائيلية غير مسبوقة قيل انها حيدت قدرات دفاعية اساسية لإيران ومراكز عسكرية نوعية، هذه التطورات ايا كانت خلفياتها تفرض اعادة قراءة لواقع الردع في الشرق الاوسط وحدود الفعل ورد الفعل بين قوتين مركزيتين في الاقليم.
حيث أفادت التقارير بأن أكثر من 70 طائرة إسرائيلية نفذت هجمات جوية دقيقة استهدفت نحو 40 موقعا داخل العمق الإيراني، شملت بنى تحتية عسكرية ومنظومات دفاعية حساسة وفي المقابل ردت إيران بقصف صاروخي مباشر استهدف مدينة تل أبيب ومناطق استراتيجية أخرى، معلنة عن نيتها إطلاق ما يصل إلى 2000 صاروخ باليستي في عملية وُصفت بأنها ستكون الأوسع والأعنف من حيث الكثافة والتأثير اذا حدثت.
ورغم هذا التصعيد غير المسبوق من الجانبين إلا أن المشهد العام يكشف عن استمرار الالتزام النسبي بقواعد الاشتباك الكلاسيكية، حيث تُدار العمليات ضمن توازنات محسوبة لا تسعى إلى الانفجار الشامل بقدر ما تهدف إلى إعادة ترسيم حدود الردع وفرض شروط جديدة على معادلة القوة في الإقليم او ربما تحسين شروط التفاوض.
غير أن من ينظر بعين البصيرة لا السمع ويتجاوز صخب التصريحات وضجيج المواقف يدرك أن ما يجري لا يُختزل في طلعات جوية أو بيانات نارية، بل هو مشهد مغمور بالنوايا المدفونة تتداخل فيه الرموز مع الرسائل وتتماوج فيه الظواهر مع الخوافي، إنها ليست مواجهة عسكرية فحسب بل صراع وجود تُعاد فيه كتابة مفاهيم الهوية وتُرسم فيه خرائط المستقبل بالدم والنار.
ومن بين ثنايا هذا المشهد المتشابك تبرز 6 فرضيات كبرى قد تفسر ما يجري خلف الأفق:
اولها انهيار متعمد للهيبة الايرانية تمهيدا لاعادة التشكيل، فالضربات المتتالية على الداخل الايراني وتحييد منظوماته الدفاعية قد لا تكون فقط عمليات عسكرية، بل جزء من مشروع اعمق يستهدف تحطيم صورة ايران كقوة غير قابلة للكسر تمهيدا لاعادة انتاج نظام سياسي داخلي اكثر مرونة واكثر انفتاحا وربما اقرب الى طهران الشاه منها الى طهران الثورةوالخميني.
ثانيها ان اسرائيل تخوض معركة ما قبل هرمجدون فالاسقاطات المتكرر للدفاعات والطيران الحر فوق سماء طهران واغتيالات القيادات ليس فقط لفرض واقع ميداني بل لرسم صورة ذهنية في الوعي الجمعي بان اسرائيل قوة لا تقهر ولا تحدها حدود وكأنها تهيئ العقل الدولي لحرب وجودية حتمية.
ثالثها ان اميركا لا تسعى لاسقاط ايران، بل لابقائها تهديدا منضبطا فالحسابات الامريكية ربما تفضل ايران المستنزفة القادرة على اثارة القلق دون ان تكون فاعلة بالكامل مما يبرر وجود القواعد العسكرية ويضبط ميزان الردع في الخليج دون انفجار.
رابعها إبقاء الخليج معلقا بين تحديات الامن ومجال الوساطة الدولية ،ففي حال توسعت رقعة المواجهة لتطال منشآت الطاقة الحيوية قد تجد دول الخليج نفسها امام استحقاقات استراتيجية معقدة تتراوح بين الحاجة لتعزيز قدراتها الدفاعية بشكل واسع او الانخراط بدور اكثر فعالية في مسارات التهدئة والوساطة ضمن اطر اقليمية او دولية تقودها قوى كبرى مثل الصين وروسيا ،وفي كلا الخيارين قد تبرز تحديات تتعلق بهامش القرار السيادي ومساحة المناورة المستقلة في ظل تصاعد الاستقطابات الدولية.
خامسها في حال فقدت طهران مركزيتها قد تنشأ كيانات اكثر حركية واستقلالية كالحوثيين وحزب الله مما يعيد تشكيل الخريطة الشيعية عبر وكلاء لا يربطهم بالمركز سوى الشعارات.
سادسها ان المشهد يتجاوز السياسة الى صراع رموز دينية وتاريخية عميقة حيث رفعت ايران الراية الحمراء فوق مرقد في قم في اشارة عقائدية لا ترفع الا اعلانا للثأر وبدء معركة لا هوادة فيها، بينما اختارت اسرائيل ان تطلق على عمليتها العسكرية اسم الاسد الصاعد وهو تعبير مستمد من التوراة يحمل بعدا نبوئيا عن القوة والانقضاض ،هكذا بدا الصدام وكأنه مواجهة بين راية العقيدة وسردية النبوءة بين ثأر الحسين واسطورة داوود في صراع تتواجه فيه الرموز كما تتقاطع فيه الصواريخ.
فأضحى الواقع محشورا بين فكي نبوءات الخلاص ولهيب الصواريخ ليغدو الشرق الأوسط مختبرا مفتوحا يُعاد فيه رسم الجغرافيا بمداد القوة لا بحكمة العقل.




