*
الاحد: 21 ديسمبر 2025
  • 01 حزيران 2025
  • 12:59
ما بين الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الجديد هل المهارات العملية هي المؤهل الحقيقي لعصرنا
الكاتب: د. لبنى حنا عماري

خبرني - مع التحول السريع الذي يشهده العالم خلال العقدين الأخيرين في بنية الاقتصاد العالمي، لم يعد الأمر يقتصر على مجرد الانتقال من الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد الرقمي، بل تعدّاه إلى إعادة تعريف جوهر مفاهيم العمل، والقيادة، والابتكار. وفي صلب هذا التحول، تبرز ريادة الأعمال التقنية بوصفها الحاضنة الكبرى للأفكار الإبداعية، والمحرك الأساس لنمو الاقتصاد المعرفي، حيث أصبح الابتكار التقني، والعمل الحر، والتعلم المستمر من الركائز الأساسية لبناء المستقبل. وفي ظل هذا الواقع المتغير، يُطرح تساؤل جوهري: هل لا تزال الشهادة الأكاديمية تحتفظ بقيمتها التقليدية؟ وهل ما زالت تُعدّ المعيار الأهم للتوظيف والنجاح؟ أم أن المهارات العملية أصبحت اليوم تتصدر المشهد كمؤهل حقيقي لعصرنا، وكأصل معرفي جديد يتناغم مع منطق "الاقتصاد الجديد" ومتطلباته المتسارعة؟

ومع تزايد تأثير الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات، وتسارع التغيرات في سوق العمل، بات من الجلي أن معايير النجاح المهني لم تعد تُقاس فقط بالشهادات الأكاديمية. لقد دخلنا عصرًا جديدًا تُقوَّم فيه الكفاءات استنادًا إلى ما يستطيع الفرد إنجازه عمليًا، لا إلى ما يحمله من ألقاب أكاديمية. وهكذا، يفرض الاقتصاد الجديد معاييره الخاصة التي ترفع من شأن المهارات العملية، لا سيما تلك القابلة للتكيّف مع أدوات الذكاء الاصطناعي ومعطيات الاقتصاد الرقمي .

ولفهم هذا التحول بشكل أعمق، لا بد من التوقف عند مفهوم الاقتصاد الجديد ذاته، وماذا يعني أن تتفوق المهارات التطبيقية على المؤهلات الورقية في بيئة اقتصادية تزداد اعتمادًا على التكنولوجيا والابتكار.فالاقتصاد الجديد، وهو مصطلح يشير إلى الأنظمة الاقتصادية المعتمدة على المعرفة والتكنولوجيا والابتكار، لم يعد يعتمد على الأنماط التقليدية للإنتاج أو على الوظائف النمطية التي تتطلب تعليمًا أكاديميًا فقط. ففي هذا السياق، أصبحت القدرة على الإنجاز، والمرونة في التعلم، والتمكن من أدوات التكنولوجيا الحديثة، هي العوامل الأساسية التي تحدد قيمة الفرد في سوق العمل. الذكاء الاصطناعي، بقدر ما يُحدث تحولات في طبيعة بعض الوظائف، فإنه في الوقت ذاته يعيد تعريف المهارات التي تحتاجها المؤسسات. فالقضية لا تتعلق بزوال وظائف بقدر ما تتعلق بقدرة الأفراد على استخدام هذه التقنيات وتوظيفها بفعالية في سياق أعمالهم. وهنا تظهر المهارات العملية كعنصر حاسم في التعامل مع التحديات الجديدة.

من الناحية التاريخية، كانت الشهادة الأكاديمية بمثابة جواز عبور إلى الحياة المهنية. كانت تمثل دليلًا على المعرفة، والجدية، والالتزام. لكن هذا النموذج لم يعد كافيًا في عصر أصبحت فيه المعرفة متاحة للجميع، والتعلم الذاتي أحد أبرز مظاهر اقتصاد المعرفة. لم تعد الشركات الكبرى، مثل Google أو IBM، تشترط شهادات جامعية للتوظيف في بعض أقسامها، بل تركز على ما يمكن للمرشح أن يفعله فعليًا، وما الذي يعرفه من مهارات قابلة للتطبيق، خاصة في مجالات البرمجة، وتحليل البيانات، وإدارة المشاريع الرقمية، وحتى التفكير التصميمي.

من هذا المنطلق، بات واضحًا أن المهارات العملية مثل القدرة على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، تحليل البيانات، حل المشكلات المعقدة، التفكير النقدي، التكيف السريع، والعمل الجماعي في بيئة افتراضية، أصبحت هي المحك الحقيقي في تقييم الكفاءات. هذه المهارات لا تقتصر على الجانب التقني فقط، بل تشمل ما يُعرف بالمهارات اللينة  (soft skills) مثل الذكاء العاطفي، والقدرة على التواصل الفعال، وإدارة الوقت، والمرونة في التعامل مع المتغيرات أصبحت عوامل أساسية في بناء المسار المهني في بيئة سريعة التحول.

الذكاء الاصطناعي نفسه أسهم في تعميق هذا التحول. فبينما يُمكِّن الموظفين من أداء المهام الروتينية بشكل أسرع وأكثر دقة، فإنه يحرّر وقتهم للتركيز على الجوانب الإبداعية والاستراتيجية. وهذا يتطلب أفرادًا قادرين على التفاعل مع التكنولوجيا، لا مجرد مستخدمين لها، بل مطورين ومصممين وناقدين لها في الوقت ذاته. وبهذا تصبح المهارات العملية المرتبطة بفهم السياق، والتفاعل مع الخوارزميات، وتفسير النتائج، من صلب الكفاءة التي يبحث عنها أصحاب العمل اليوم.

لكن من المهم ألا نقع في فخ التبسيط؛ فالشهادات الأكاديمية لا تزال تشكل ركيزة أساسية في العديد من التخصصات لا سيما التي تتطلب تأهيلاً علمياً معمقاً، وفي هذه المجالات تحديدًا، تزداد الحاجة إلى الجمع بين المعرفة النظرية والمهارات العملية، لا الاقتصار على أحدهما دون الآخر. من هنا، بدأت بعض الجامعات في مراجعة مناهجها، محاولةً مواءمة التعليم الأكاديمي مع متطلبات السوق، وإعادة تعريف مفهوم "الخريج المؤهل". فالتحدي الحقيقي لا يكمن في التقليل من أهمية الشهادات، بل في تجاوز القناعة التقليدية التي تعتبرها معيارًا وحيدًا للكفاءة، والسعي نحو إعداد خريجين قادرين على الدمج بين العمق العلمي والمهارات التطبيقية والتكنولوجية. فالمسألة لم تعد تتعلق فقط بما درسه الفرد، بل بما يستطيع إنجازه الآن، وما يمكنه تعلمه وتطويره لاحقًا. نحن أمام لحظة مفصلية في تاريخ العلاقة بين التعليم وسوق العمل، لحظة تستدعي إعادة تفكير جذرية في السياسات التعليمية، ومناهج الجامعات، وطرائق التقييم، ومفاهيم النجاح المهني.

 وقد بدأت المؤسسات التعليمية الرائدة تستوعب أن المستقبل لا يُبنى بالمعلومات النظرية وحدها، بل يتطلب مناهج مرنة تتماشى مع معطيات العصر وتسارع تطوراته. ومن النماذج اللافتة محليًا ما تقوم به الجامعة الهاشمية، التي أنهت مؤخرًا استكمال متطلبات إدخال الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي في تعليم طلبة الطب في الخطة الدراسية الجديدة، والمتوقع تنفيذها في العام الأكاديمي بعد القادم، حيث تم دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي في العملية التعليمية، إلى جانب إقرار تعليمات مركز المحاكاة والتدريب الافتراضي، وتجهيز مختبر متقدم للواقع الافتراضي في كلية الطب. كما شملت التعديلات تطوير مساق "أخلاقيات الطب" ليواكب مستجدات الطبابة عن بُعد، مع العمل على تعزيز التكامل بين كليتي الطب والتمريض لإعداد خريجين قادرين على العمل ضمن فرق متعددة التخصصات. وتُظهر هذه الجهود أن الجامعات بدأت تتحرك بوعي نحو نموذج تعليمي جديد، يتماشى مع التحولات العالمية، ويجعل من الذكاء الاصطناعي والبحث العلمي والواقع الافتراضي مكونات أساسية في إعداد الطبيب المستقبلي. وهو توجه ينسجم مع رؤية الأردن للمستقبل، كما عبّر عنها سمو ولي العهد الأمير الحسين في دعمه للتحول نحو الذكاء الاصطناعي، الذي لم يعد ترفًا أو خيارًا، بل ضرورة تمكّن الجامعات الأردنية من احتلال موقع ريادي في المشهد العلمي والمعرفي الجديد.

 

مواضيع قد تعجبك