يا لسمو الرؤية! لم يكن خطاب ولي العهد، الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، أمام منتدى "تواصل" مجرد كلمات عابرة، بل كان منبه يضرب سبات الفكر، وشرارة تضيء دروب المستقبل لكل أردني غيور. إنه نداءٌ استراتيجي يضعنا أمام مفترق طرق حاسم: إما أن نرتقي إلى مصاف صانعي التقنية، أو أن نُدان بالتخلف في ذيل الأمم، نستهلك ما تجود به أيادي الغير!
كلمات سموه لم تكن ترفاً تنظيرياً، بل كانت إعلانًا لموقف لا رجعة فيه، ورؤية لا تقبل المساومة: لا مكان في هذا العالَم المتسارع لمن يفتقر للابتكار، ولا قيمة لدولة لا تسهم بفاعلية في نحت أدوات الغد المشرق.
فالذكاء الاصطناعي: ليس رفاهية... بل مصير محتوم!
فعندما تحدث سموه عن دمج الذكاء الاصطناعي في شرايين كل قطاع، لم يكن يدعو لتطوير إداري بسيط أو تحسينات هامشية في الأداء. لقد كان يدعو إلى تحوّل وطني شامل، ثورة فكرية وتقنية تعيد صياغة هويتنا التنموية. فالذكاء الاصطناعي هو مفتاح العصر الذهبي، واللغة الوحيدة التي ستُفهم بها تحديات الغد الهائلة. تخيّلوا معي: في الصحة، يمكنه أن يكون الملاك الحارس الذي ينقذ الأرواح عبر التشخيص المبكر والدقيق. في الزراعة، لن يكون مجرد أداة، بل هو الساحر الذي يضاعف الإنتاج بأقل الموارد والتكاليف، ليضمن لنا الأمن الغذائي. وفي التعليم، ليس مستحيلاً أن يصنع من كل طالب عبقرياً فريداً على طريقته، يكتشف قدراته الكامنة ويطلقها نحو آفاق لا حدود لها. هذه ليست أحلاماً وردية، بل هي حقائق ساطعة تعيشها دول نهضت من رماد اللا شيء، فقط لأنها آمنت بقوة التقنية، واستثمرت في عقول أبنائها بلا تردد.
والدولة مسؤولة... لكن المسؤولية أمانة مشتركة!
فمن غير المعقول أن نلقي بالعبء كله على كاهل الحكومة وحدها؛ فهذه معركة وطن. لكن من غير المقبول، أن نقف مكتوفي الأيدي، نتفرج على قطار المستقبل وهو يمر مسرعاً!
فالحكومة مطالبة اليوم، ليس غداً، بل في هذه اللحظة، بأن تطلق صناديق تمويل حقيقية وجريئة تُشعل فتيل ريادة الأعمال التقنية، وتحوّل الأفكار الخلاقة إلى مشاريع عملاقة. وتهيء بيئة تشريعية مرنة ومسرّعة، تُزيح العراقيل البيروقراطية، وتفتح الأبواب أمام الابتكار، لا أن تُكبل الطموحات. وتدمج التكنولوجيا في صميم منظومة التعليم، من قاعات الحضانة الأولى حتى أروقة الجامعات العريقة، لتُخرج لنا جيلاً متسلحاً بأدوات العصر. وتعيد النظر جذرياً في سياسات التوظيف والتدريب، لتواكب ليس فقط احتياجات السوق المحلي، بل طموحات السوق العالمي اللامتناهية، لتُحوّل شبابنا إلى قوى عاملة مطلوبة عالمياً.
وما أروع أن تكون مؤسساتنا العامة هي القدوة، تتحول إلى منصات حقيقية للابتكار والإبداع، لا مجرد جدران خرسانية تُكرس البيروقراطية المقيتة.
فالأردن يمتلك كنزاً لا يقدر بثمن العقول!
فحينما شبّه جلالة الملك مستشفىً متطوراً في دولة شقيقة بأنه لا يساوي شيئاً بلا كوادر بشرية مؤهلة، فقد لامس جوهر الحقيقة التي نعرفها جميعاً: الإنسان الأردني هو الأصل، هو الثروة الحقيقية التي لا تنضب، هو الفرق الجوهري الذي يميزنا.
فلدينا آلاف الشباب الأردني من أصحاب الكفاءات العالية، الذين يثبتون للعالم أجمع، يوماً بعد يوم، قدرتهم الخارقة على التميز عالمياً. هؤلاء الشباب لا ينتظرون صدقة من أحد، بل يطالبون بفرصة عادلة تليق بهم! لا يحتاجون شفقة، بل يطلبون ثقة مطلقة بقدراتهم الفذة. إننا نملك طاقات كامنة تتفجر إبداعاً، نعيش في استقرار تُحسد عليه كثير من الدول، ونتحدث عن المستقبل بشغف لا حدود له... فماذا ينقصنا إذاً؟ ينقصنا قرارٌ جامع لا يتراجع، وإرادة سياسية شجاعة لا تتردد، وقد بدأت تتجسد هذه الإرادة بصوت سمو ولي العهد الذي اخترق الجدران.
فالرسالة الأخيرة تؤكد ان الوقت لا ينتظر... والمستقبل يُصنَع الآن!
فإذا كان سمو ولي العهد قد أطلق هذه الرؤية الملهمة، فإننا جميعاً مطالبون بأن نُترجمها إلى واقع ملموس، لا أن نكتفي بالتصفيق الحماسي لها ثم نعود إلى سباتنا! فالتاريخ لا يرحم المتأخرين، والعالم لا ينتظر المترددين. يجب أن نبدأ من الآن – من هذه اللحظة بالذات – في بناء منظومة وطنية حقيقية تُنتج التقنية وتصنعها، لا تكتفي بشرائها واستيرادها! تُصدّر الحلول المبتكرة إلى العالم، لا تستوردها! تُخرّج أجيالاً من المبرمجين والقادة التقنيين، لا مجرد موظفين تابعين!
عندما قال سمو الأمير: "إذا كانت المعرفة قوة، فإن الأفكار الخلاقة ثروة،" فذلك يعني أن هذه الكلمات المقدسة يجب أن تتحول إلى مناهج دراسية تُثري العقول، وإلى مشاريع وطنية عملاقة تُغير وجه الأردن، وإلى شركات ناشئة تخلق فرص عمل غير مسبوقة، وإلى فرص عمل حقيقية وكريمة تبني أردنًا جديداً يليق بطموح قائده العظيم وشعبه الأبي! إن الفرصة أمامنا اليوم، إن لم نقتنصها، فسنُدان أمام التاريخ، ولن نلوم إلا أنفسنا!




