خبرني -
في زمنٍ تتآكل فيه الهويات تحت أقدام الموضة، وتُباع فيه المبادئ على أرصفة المصالح، يبقى في القلب حنينٌ إلى مدنٍ لم تكن مدنًا فقط، بل كانت رجالاً يمشون، ومواقف تنبض، وتاريخًا يشتعل في كل حجر، وأولها الكرك.
أنا ابن الكرك… لا أحمل فقط اسمها، بل أحمل إرثًا، وميراثًا من الرجولة لا يمكن طمسه، ولا تجاوزه. تربيت في حواريها، حين كانت الرجولة تُقاس بالفعل لا بالقول، والمروءة تسبق اللقب، والصمت أبلغ من ألف شعار. واليوم، بعد أن غاب من كانوا أعمدة هذه الأرض، لا أجد عزاءً إلا في القيم التي خلفوها… فما بعد الأطلال إلا القيم.
حين كانت الكرك مدرسة لا مدينة
الكرك لم تكن يومًا مجرد رقعة على خارطة الأردن. كانت وما زالت مدرسة في الفداء، جامعة في الشهامة، منجمًا للرجال الذين لا يتكررون. لم تكن بحاجة إلى أبواق أو دعاية، كانت تُعرِّف نفسها بصمتها، برجالها، بمواقف لا تُنسى.
ولعلّ أعظم ما يمكن أن يُروى عن الكرك، لا يوجد في كتب الجغرافيا ولا في المناهج الدراسية، بل في السيرة الحيّة لرجل واحد اختصر الكرك كلها: الشيخ إبراهيم الضمور.
ذلك الرجل الذي لا تكفيه صفحات التاريخ، لأنه كتب اسمه في وجدان كل من عرف معنى الفداء. حين احتمى الثائر السوري أحمد باشا القطيش الحمود الفاعور من بطش الحكم العثماني، وطلب اللجوء إلى الكرك، لم يتردد الشيخ إبراهيم الضمور في استقباله، رغم علمه بأن الثمن قد يكون حياته، أو ما هو أغلى من حياته: أولاده.
هدّده العثمانيون، وطالبوه بتسليم الضيف، لكنه رفض. أرادوا إذلاله، فكشفوا عن قسوتهم، وهددوه بإحراق أبنائه إن لم يُسلّم الدخيل. فكان جوابه ملحمة: قدم أولاده واحدًا تلو الآخر، شهداء على مذبحة الكرامة، لا من أجل شخص، بل من أجل مبدأ.
هل سمعتم بهذا؟! رجل قدّم فلذات كبده ليحمي دخيلًا استجار به. أي مقام أخلاقي هذا؟ وأي جبل من الشرف كان هذا الرجل؟! تلك ليست قصة عابرة، بل جين ورثته الكرك جيلاً بعد جيل.
حين تكون الكرامة قانوناً لا يُكسر
في الكرك، لم تكن القوانين تُكتب على الورق، بل في القلوب. كانت النخوة قانونًا، وكانت الحمية دستورًا. إذا نادى المستغيث، جاءه من لا يعرفه ولا يعرف اسمه، فقط لأنه “استجار”. لا يُسأل الضعيف عن نسبه، ولا يُحاسب الضيف على سبب قدومه. في الكرك، كانت الحماية دينًا، والوفاء عقيدة، والعار يُغسل بالدم لا بالاعتذار.
واليوم، حين تمرّ في أزقة الكرك، قد لا تجد الرجال الذين عرفتهم. بعضهم مات، وبعضهم هاجر، وبعضهم أنهكه الواقع. لكنك إن دقّقت في وجوه الأحفاد، في نظرات شبابها، في صوت أمهاتها، سترى أن النار لم تنطفئ، وأن الجذوة ما زالت متقدة.
لماذا أكتب؟
لأنني لا أبكي الأطلال، بل أوقظ ما بقي. أكتب لأن التاريخ لا يجب أن يُختصر في الحكايات، بل يجب أن يُستعاد في السلوك. أكتب لأقول إن الكرك لم تكن عظيمة بأبنيتها، بل بأبنائها. لم تكن غنية بثرواتها، بل بمواقفها. أكتب لأقول: يا أبناء الكرك، لا تسمحوا للريح أن تسرق منكم المجد، ولا تتركوا ذاكرة إبراهيم الضمور تُنسى في زحمة النسيان.
ما بعد الأطلال… إلا القيم
نعم، مات من قالوا، لكن لم تمت أقوالهم. رحل من حملوا المبدأ، لكن بقي المبدأ حيًّا. ما بعد الأطلال إلا القيم، وما بعد الرجال إلا من يشبهونهم. الكرك لا تموت، لأنها لم تكن حيّة بأجساد أهلها فقط، بل بمواقفهم التي لا تموت.
فيا زمنًا يحاول أن يذيب كل شيء… اعلم أن الكرك صخرة لا تُذوّب. ويا خريطةً ترسم الحدود بالحبر… الكرك ترسم النفوس بالدم. ويا أبناء الكرك، تذكّروا دائمًا أنكم لستم من مدينة، بل من سلالة مبادئ لا تشيخ.
سلامًا على الكرك… وسلامًا على كل من يشبهها.
وسلامًا على روح إبراهيم الضمور، الذي مات واقفًا، ليبقى اسم الكرك عاليًا لا ينكسر.
ا د هاني الضمور




