من يتأمل مسيرة الدولة الأردنية منذ نشأتها، يدرك بجلاء أن الثقافة لم تكن يومًا هامشًا في معادلة البناء الوطني، بل كانت دائمًا في صُلب المشروع التنموي، تؤسس للوعي، وتبني الإنسان، وتُضيء طريق المستقبل. لقد أدركت الدولة الأردنية، منذ بدايات التأسيس، أن الثقافة ليست ترفًا فكريًا، بل هي ضرورة تنموية، تمثل الروح الحية للمجتمع، والمحفز الأول للإبداع والتغيير.
فالثقافة في جوهرها هي منظومة من القيم، والعادات، والمعرفة، والفنون، التي تُعبر عن هوية الأمة، وتُشكل الوعي الجمعي لأبنائها. وفي السياق الأردني، كانت الثقافة وما تزال قوة ناعمة فاعلة، تؤدي أدوارًا متداخلة في تعزيز الانتماء الوطني، وتثبيت الهوية الجامعة، ومقاومة كل أشكال الإقصاء والتطرف.
لقد واكبت الثقافة الأردنية مسيرة الدولة في مراحلها المختلفة، فكانت حاضرة في مشروع التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وتمثل هذا الحضور في العديد من البرامج والمبادرات التي أطلقتها الدولة، كمشروع مكتبة الأسرة، والمدن الثقافية، ومراكز الفنون، والمهرجانات الوطنية، التي هدفت إلى توزيع مكتسبات التنمية ثقافيًا على مختلف المحافظات، وإشراك المجتمع في بناء وعيه وتعزيز هويته.
ولم تتوقف الثقافة في الأردن عند حدود التعبير الفني أو الأدبي، بل تجاوزت ذلك لتُصبح محركًا رئيسيًا لعجلة التنمية. فالصناعات الثقافية والإبداعية اليوم تُعد من أكثر القطاعات نموًا وحيوية في العالم، وتُسهم بما يزيد على 13% من الدخل العالمي. وهذا يؤكد أن الاستثمار في الثقافة ليس أقل شأنًا من الاستثمار في الزراعة أو الصناعة، بل قد يكون أكثر استدامة وأعمق أثرًا.
إن الأردن، بما يملكه من إرث حضاري غني، وتنوع جغرافي وثقافي، يمتلك مقومات حقيقية لأن يكون مركزًا إقليميًا للصناعات الثقافية والفنية. من الفنون التشكيلية والخزف والخط العربي، إلى صناعة السينما والسياحة الثقافية، حيث يشكل الأردن متحفًا مفتوحًا يحتضن عشرات المواقع التاريخية والدينية، ويُقدم للعالم صورة متفردة عن التنوع والجمال والإبداع.
كما أن التحول الرقمي فتح آفاقًا جديدة أمام الثقافة الأردنية، فبدأت المؤسسات الثقافية في توسيع حضورها الإلكتروني، وإنتاج محتوى رقمي يُواكب العصر، ويصل إلى الأجيال الجديدة بأساليب حديثة، تضمن فاعلية الرسالة واستمرارية التأثير.
الثقافة أيضًا، بطبيعتها الإنسانية، هي السد المنيع في وجه ثقافة التكفير والكراهية والظلامية، وهي خط الدفاع الأول عن قيم الحياة والجمال والعقل. فالوعي الثقافي السليم هو الذي يُحصّن المجتمع من الانجراف وراء الأفكار المتطرفة، وهو الذي يُغذي روح الحوار، ويعزز من التعايش والتسامح.
ولا يمكن أن تكتمل معادلة التنمية دون شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص في دعم الثقافة. فضعف الاستثمار في القطاع الثقافي لا يعود إلى غياب الجدوى، بل إلى غياب الوعي بأهميته. وإذا ما أُتيحت الفرص، وتم تفعيل السياسات الحاضنة، فإن أسواق الفنون والثقافة ستكون من أكثر القطاعات إنتاجًا وحيوية.
وفي الختام، فإن الثقافة ليست مظهرًا من مظاهر الترف، بل هي عمق المجتمع وروحه، وشرط من شروط نهوضه واستقراره. هي المدماك الأول في بناء الإنسان، والإنسان هو غاية التنمية ووسيلتها. ومن هنا، فإن تعزيز دور الثقافة في الأردن، هو تعزيز لمداميك التنمية ذاتها، وبناء لأسس دولة حديثة متجذرة في هويتها، منفتحة على العالم، ومتمسكة بقيمها الإنسانية الراسخة..




