*
السبت: 13 ديسمبر 2025
  • 21 أيار 2025
  • 17:17
زمن الواجهة كيف تُصنع الرموز في عصر التفاهة
الكاتب: محمد صبيح الزواهرة

في زمنٍ لم تعد فيه القيمة شرطًا، ولا العمق ميزة، برز “وهم المؤثّرين” كأحد أخطر تجليات العصر الرقمي، حيث يمكن لابتسامة مصطنعة، أو وجه مصقول بفلتر، أن يتحول إلى سلطة ناعمة تُوجّه الرأي العام، تصنع الذائقة، بل وتؤثر في المزاج المجتمعي.

لم يعد غريبًا أن تتصدّر مشهد التأثير فتاة جميلة بلا مضمون، أو شاب وسيم لا يملك من المعارف سوى نصوص محفوظة، يقتات بها على إعجابات سريعة. كثير منهم صاروا يحتلون الشاشات وصفحات التواصل الاجتماعي، يقدمون محتوى فارغًا هشًا، مُعاد التدوير، مستندًا غالبًا إلى منصات هلامية لا تحمل مشروعًا ولا رؤية، ولا تفرز منتجًا معرفيًا أو قيميًا قادرًا على مواجهة متغيرات الزمن.

نجحت خوارزميات مواقع التواصل في ترميز التفاهة؛ أي في تحويل الأشخاص عديمي المحتوى إلى رموز جماهيرية. فالنجاح لم يعد يُقاس بالتأثير الإيجابي أو بمدى الإسهام في الوعي، بل بعدد المتابعين، وعدد النقرات، ومدى “الانتشار”. وما يثير القلق ليس هذا التحوّل فحسب، بل سرعة تقبّله وكأنه أمر طبيعي محتّم.
في عالم تحكمه السرعة، وتُهيمن عليه الصورة، لم تعد الفكرة القوية، ولا الموقف النبيل، قادرين على لفت الانتباه كما يفعل مقطع راقص أو تحدٍّ تافه. وبذا، تراجعت السلطة المعنوية لصالح سلطة الواجهة، وسُلّمت مفاتيح التأثير لأشخاص لا يُمثلون شيئًا سوى مظهرٍ جيّد وذكاءً تسويقيًا، مدعومين بخوارزميات لا تفرّق بين الصدق والزيف، ولا بين القيم والفراغ.

حين تتحوّل التفاهة إلى أداة لصناعة الرأي العام، نكون أمام كارثة معرفية واجتماعية. فهذه “الرموز الهشة” لا تكتفي بتصدّر المشهد، بل تعيد تشكيل مفاهيم الجمال، والنجاح، والقدوة، وفق معايير سطحية وخطرة. والنتيجة؟ جيل يتعلّم كيف يُشبههم، لا كيف يُنجز، ويؤمن بأن الوصول لا يتطلّب كفاءة، بل “ترندًا” جيدًا.
مطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نعيد الاعتبار للمعنى، للفكرة، للمضمون. أن نُنتج رموزًا حقيقيين، يُلهمون لا يُقلّدون، يُضيئون لا يُبهرون فقط. فالمجتمعات لا تُبنى على “المؤثّرين” العابرين، بل على القادرين على ترك أثر، لا على ترك صور.
قد لا نستطيع أن نوقف زحف التفاهة، لكننا قادرون على زرع الوعي، وتعزيز المناعة الفكرية، وخلق بدائل تحمل مضمونًا وتستحق أن تكون في الواجهة. فالأوطان التي تُسلّم عقولها للتفاهة، تُسلّم مستقبلها للفراغ.

مواضيع قد تعجبك