شهدت العقبة هذا الأسبوع تحوّلاً جديداً في إدارتها، مع استقالة السيد نايف الفايز وتعيين المهندس شادي المجالي رئيساً لمجلس المفوضين لسلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة. تأتي هذه الخطوة في لحظة حساسة تتزامن مع إعادة إطلاق الرؤية الحضرية للمدينة عبر المخطط الشمولي الجديد 2024–2040 الذي أعدّته الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA)ومع ازدياد الزخم نحو السعي لإدراج العقبة ضمن قائمة "أفضل 100 مدينة عالمية" وفق ما نصّت عليه رؤية التحديث الاقتصادي.
وبوصفي من المتابعين لمسار العقبة منذ انطلاقتها كمشروع وطني في العام 2000، أجد من الضروري تذكير أصحاب القرار، وفي مقدّمتهم المهندس شادي المجالي الذي عملت معه قبل عقدين أثناء تخطيط مسارات وبوابات ميناء الحاويات ومحطة الركاب، بأن هذه المدينة يجب أن تبقى رافعة اقتصادية وطنية قبل أن تكون واجهة ملوّنة في تقارير التصنيفات الدولية.
لقد قرعت الجرس مبكراً على مدى عقدين من الزمن، حين كتبتُ عن العقبة من موقع العارف بتفاصيلها، لا سيما أن شقيقي الكابتن محمد الكلالده كان أول رئيس لمجلس مفوضيها في العام 2000، وناقشت نموذجها المُعَد من قبل شركة TSG العالمية والذي أعطاني إياه المهندس عماد الفاخوري في مكتب وزير النقل آنذاك بالعام 2000، واعتبرته جزءاً من رسالة الدكتوراة التي اعددتها بالنمسا بموضوع أثر المناطق الصناعية على توجيه النمو الحضري.
لقد نبّهت مراراً إلى الانحراف التدريجي عن الرؤية التنموية الأصلية، وتحوّل العقبة إلى حاضنة لمشاريع نخبوية عقارية وخدمية، على حساب خلق فرص عمل مستدامة للأردنيين. إن المعيار الحقيقي لنجاح المدينة ليس عدد الفنادق أو المولات، بل في جواب سؤال بسيط ومباشر: كم أردنياً يعمل ويسكن في العقبة؟ ألم تُمنح العقبة فرصة كافية لتقترب من هدف المليون نسمة، بدل أن تبقى عالقة عند عُشر هذا الرقم بعد 25 عاماً من إنشائها؟
المخطط الشمولي الجديد: طموحات كبيرة ومفترق طريق
لقد جاء المخطط الشمولي الجديد 2024-2040 كمحاولة لتصحيح المسار، وتوسيع نطاق استعمالات الأراضي لتصل إلى 651.5 كيلومتر مربع، مع تخصيص 190 كيلومتر مربع شمال شرق المدينة للصناعات، اللوجستيات، السياحة البيئية والخدمات العمالية. كما يعزز المخطط مفاهيم التنمية الخضراء وربط المرافق بالبنية التحتية الذكية، واضعاً المدينة على مسار التحوّل إلى مركز إقليمي للابتكار والنقل البحري والخدمات المتكاملة.
صحيح أن مخطط جنلسر المعتمد لعقود قد ركز على مدينة العقبة الحضرية شمالاً والصناعية جنوباً، إلا أن هذا المخطط قد واجه عقبات بالتنفيذ لا سيما بتباطوء العمل بمرسى زايد، المشروع المؤجل في قلب المدينة، والذي لا يمكن قراءة مستقبل العقبة دون التوقّف عنده، والذي كان يُفترض أن يعيد تشكيل الواجهة البحرية بعد نقل الميناء الرئيسي وبيع أراضيه التي تتجاوز 3.2 مليون متر مربع. المخطط الأصلي الذي عُرض على المواطنين والمستثمرين تضمن رؤية طموحة لمدينة بحرية متكاملة: أبراج سكنية، فنادق خمس نجوم، مركز تسوق عالمي، مارينا لليخوت، ومجمعات مختلطة الاستخدام. غير أن الواقع أتى مختلف تماماً. فمنذ توقيع الاتفاق عام 2008، ظل المشروع يتعثّر. ولم تبدأ المرحلة الأولى فعلياً إلا في عام 2025، بالإعلان عن أربعة أبراج سكنية ضمن ما يسمى "مرسى زايد ريفييرا"، رغم مرور أكثر من 15 عاماً على إطلاقه. هذا التلكؤ أثّر سلباً على الحركة الاقتصادية، وأوجد فراغاً عمرانياً في أهم نقطة استراتيجية بالمدينة، وأفقد العقبة إحدى أكبر فرصها في التوسع السكاني والاستثماري. بل إن تعطّل المشروع أضعف قدرة المدينة على إقناع العالم بجاهزيتها للدخول في تصنيفات مرموقة مثل "أفضل 100 مدينة"، وهي التي لم تستطع استكمال مشروع بهذا الحجم في قلبها.
سباق الـ100 مدينة: فرصة أم فخ التجميل؟
الطموح لتصنيف العقبة ضمن أفضل 100 مدينة عالمياً يبدو مشجعاً من حيث المبدأ، لكن يجب الحذر من أن يتحوّل إلى سباق تجميلي يركّز على الواجهة العمرانية دون التحقق من عمق البنية الاجتماعية والخدمية. العقبة ليست فقط مدينة للزائرين، بل بيئة حياة للمواطنين. ولا يُبنى تصنيفها الحقيقي على الأشكال والعروض البصرية، بل على جودة التعليم، وعدالة الإسكان، وفرص التشغيل، والتوزيع المتوازن للثروة والفرص.
إن الحزمة الحكومية الأخيرة لتحفيز الاستثمار السياحي والسكني للنخبة والمقتدرين وأصحاب اليخوت المعفية من الضرائب من الأجانب في العقبة تُعد خطوة تحفيزية، لكنها إن لم تُوجّه لدعم السكن الوظيفي، وتشغيل الأردنيين، وتشجيع ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة، فإنها ستصبّ في مصلحة النخبة وتُفرّغ المدينة من وظيفتها الأساسية كمركز نمو.
إن تكليف سلطة العقبة بتولي مهمة تحقيق أحد الأهداف الاستراتيجية لرؤية التحديث الإقتصادي برفع تصنيف إحدى المدن الأردنية لتصبح من أفضل 100 مدينة في العالم، هو تحدي صعب وضعته الحكومة في حضن الرئيس الجديد لسلطة منطقة العقبة الإقتصادية الخاصة، وطريق ال 100 عريض يتيح المسير بسرعة للوصول الى الهدف، فهل الهدف رفع التصنيف كمدينة للأثرياء، أم كملاذ للفقراء.
إن التحدي أمام القيادة الجديدة في سلطة العقبة، لا يتمثّل في إطلاق الشعارات أو تحسين التصنيف العالمي، بل في إعادة العقبة إلى مسارها الوطني الأصلي: مدينة تستوعب الأردني، تُنتج فرص العمل، وتحقق التكامل بين الريادة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. العقبة تستحق أن تكون قصة نجاح إقتصادية أردنية، لا مجرد وجهة سياحية للأجانب.




