*
الاحد: 14 ديسمبر 2025
  • 11 أيار 2025
  • 08:47
بين فراغ الهوية ولهيب السيجارة المراهق يستغيث دون أن يتكلم
الكاتب: د.أحلام ناصر


عندما نتحدث عن التدخين بين الشباب، فإن أول ما نفكر به، كيف بدأو بذلك؟ من يعلّم أبناءنا التدخين؟
قد نظن أن الإجابة تكمن في الإعلانات أو غياب الرقابة الأسرية، لكن الواقع أعمق من ذلك. في مرحلة المراهقة، حيث تتشكل الهوية وتشتد الحاجة للقبول والانتماء، يلعب الأقران دورًا محوريًا في رسم ملامح السلوك. تحت ضغط الجماعة، وفي لحظة بحث عن الذات، قد تصبح السيجارة أكثر من مجرد عادة، إنها محاولة للانتماء، وإثبات للذات، ورسالة صامتة تقول، أنا موجود معهم في جلسة واحدة، في تحدٍ عابر، أو في محاولة لإثبات الذات، يبدأ شاب أو فتاة أول تجربة مع السيجارة.
اليوم نسلّط الضوء على أحد أخطر المؤثرات النفسية والاجتماعية، وهو تأثير الأقران على سلوك التدخين، ولكن من زاوية أعمق، لماذا يكون المراهق أكثر قابلية للتأثر؟

المراهقة ليست مرحلة تمرد كما يُشاع، بل هي لحظة مفصلية في تكوين الإنسان، يبدأ خلالها رحلته الحقيقية لاكتشاف الذات. في هذا العمر المضطرب، يتساءل المراهق: من أنا؟ ماذا أريد؟ وما الصورة التي ينبغي أن أكون عليها في عيون أهلي ومجتمعي؟ وبين ما يريده لنفسه وما يُنتظر منه، يتشكل صراع داخلي لا يُرى، لكنه يوجّه الكثير من قراراته، ومنها ما يبدو بسيطًا في ظاهره كالتدخين، لكنه في عمقه انعكاس لحاجة أعمق، مثل أن يجد لنفسه مكانًا في هذا العالم.هذه الأسئلة الوجودية ليست رفاهية فكرية، بل معركة داخلية يعيشها كل شاب وشابة بصمت. عالم النفس إريك إريكسون أطلق على هذه المرحلة اسم "أزمة الهوية"، حيث يسعى الفرد لتشكيل صورة واضحة عن نفسه، وفي حال فشل في ذلك، يعيش حالة من التشتت والتقليد.

وفي هذا السياق، نشير الى من الذي يعينه فعليًا وعمليًا على بناء هذه الهوية؟
غالبًا… الأقران، والأصدقاء، والزملاء، ومن هم ضمن نفس الفئة العمرية. فالمراهق يرى نفسه من خلال أعينهم، ويقيس قيمته بمدى قبوله داخل الجماعة الذي يتعامل معها او يسعى للانتماء لها. لذلك، حين يجد أن الجميع يدخن، يبدأ بالتفكير والتساؤل، هل أكون مقبولًا ومحترمًا اذا لم أكن مثلهم؟

وهنا لا بد ان نخوض قليلا في نضج المراهق العقلي في هذه المرحلة، لا بد أن نفهم أن دماغ المراهق لا يعمل بنفس الطريقة التي يعمل بها دماغ الراشد. اشارت الدراسات الحديثة في علم الأعصاب، أن جزء العقل المسؤول عن التفكير العقلاني، وضبط السلوك، وتقدير العواقب، لا يكتمل نموه إلا بعد سن 24. بينما الجزء المسؤول عن المشاعر والانفعالات يتمتع بنشاط قوي في مرحلة المراهقة، وهذا ما يفسر سلوك الشباب، بالرغم من ان المراهق يعلم أن التدخين مضر، لكنه يتخذ قراره بناء على الشعور لا التفكير، خاصة إذا شعر بالتهديد الاجتماعي أو العزلة بين اقرانه.

بالاضافة الى ان نظرية ماسلو اشارت الى انه في ترتيب الحاجات النفسية، فإن الإنسان بعد أن يُشبع حاجاته الجسدية من طعام وأمان، يسعى لتحقيق حاجتين أساسيتين هما الانتماء، والتقدير. فالمراهق، إن لم يجد هذا الانتماء في أسرته، يبحث عنه في الشارع والمدارس والنوادي، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، و/أو في مجموعة من الأصدقاء، حتى لو كان الانتماء مشروطًا بسلوك خطر وغير مستحب مثل السيجارة. لهذا السبب، لا يكون التدخين في كثير من الأحيان خيارًا واعيًا، بل تعبيرًا عن حاجة نفسية عميقة، أن يكون جزءًا من مجموعة، أن يشعر بأنه مسموع، ومقبول، ومحبوب.

يجب أن نعي أن الوقاية لا تبدأ من التوعية فقط، بل من الاحتواء.فالمراهق لا يحتاج فقط إلى من يعلمه أن التدخين مضر، بل إلى من يسمعه دون حكم، يحبه دون شروط، ويمنحه الانتماء دون مقابل.

وعليه نحتاج الى علاقات أبوية قائمة على الثقة والحوار، لا على المنع والسيطرة، مساحات شبابية بديلة، يجد فيها المراهق ذاته في بيئة صحية وآمنة.

في نهاية الأمر، السيجارة ليست قرارًا لحظيًا بقدر ما هي صرخة صامتة، من داخل مراهق يبحث عن معنى، وانتماء، واعتراف. هي ليست البداية، بل النتيجة، نتيجة لفراغ عاطفي، لهوية غير واضحة، ولنقص في الرسائل التي تقول "أنت كافٍ... كما أنت."

إذا أردنا فعلاً الحد من التدخين بين شبابنا، فلنبدأ من الجذور لا من السلوك، من الإصغاء لا من الاتهام، من الاحتواء لا من العقاب.

حين نشبع الجوع النفسي، لن يكون للنيكوتين مكان على طاولة الحلول.

مواضيع قد تعجبك