*
الاحد: 28 ديسمبر 2025
  • 04 أيار 2025
  • 22:45
الذباب الالكتروني افة العصر وثقافة الوعي المفقود
الكاتب: الدكتور زيد احمد المحيسن

في عالم تحكمه الخوارزميات وتتسارع فيه موجات الأخبار والتعليقات، أصبحت الحقيقة هدفًا متحركًا، وأضحى الزيف أكثر انتشارًا من الصدق. لم يعد التهديد قادمًا من خارج الحدود فحسب، بل بات يُبث من داخل هواتفنا ومنصاتنا الرقمية، حيث يعمل "الذباب الإلكتروني" كجيش منظَّم ومجهول، يزرع الفتنة، ويغذِّي الكراهية، ويعيد تشكيل الوعي العام بما يخدم أجندات مشبوهة. ما إن يقع حدث، سياسيًّا كان أو اجتماعيًّا أو حتى رياضيًّا، حتى تنهال التعليقات المفبركة، والمقاطع المتحيزة  والمشاركات الموجَّهة بعناية لخلق حالة من الغليان الشعبي والانقسام الداخلي. يُستدعى التاريخ المشحون، وتُنبش القبور وتبرز  الخلافات الطائفية والمناطقية، وتُعاد صياغة المواقف وكأننا نعيش نسخة حديثة من حروب داحس والغبراء. الخطير في هذا المشهد أن هذه الحملات لا تستهدف النخب المثقفة، بل تركز على الفئات التي تفتقر إلى الوعي النقدي، والتي يسهل التأثير عليها عبر رسائل عاطفية، وصور صادمة، وشعارات رنانة. وهنا يكمن التحدي الأكبر: كيف نُحصّن مجتمعاتنا ضد هذا السلاح الناعم والقاتل في آن؟ إن مواجهة الذباب الإلكتروني لا تتم فقط عبر حذف حساباته أو التبليغ عنها، بل من خلال بناء وعي جمعي صلب، يبدأ من التعليم ولا ينتهي عند الإعلام. الأسرة، والمدرسة، ودور العبادة، والمنظمات المدنية، والجامعات، كلها شركاء في هذه المعركة. لا بد من إدخال مفاهيم التحقق من المعلومة، والتفكير النقدي، وأخلاقيات النشر في مناهج التعليم، لتنشئة جيل يعرف كيف يستهلك المعلومة ويحللها قبل أن يشاركها. كما ينبغي للإعلام العربي أن يبتعد عن الإثارة المجانية، ويسهم في خلق ثقافة حوار لا صدام، وتماسك لا شتات. ولرجال الدين دور محوري، إذ تقع على عاتقهم مسؤولية توعية الناس بخطر الفتن التي تُغذى إلكترونيًّا، وتأكيد قيمة الوحدة الوطنية التي تتجاوز الهويات الضيقة والمناطقية. أما المجتمع المدني، فعليه أن يكون منصة لحملات التوعية، وفضح الحملات الممنهجة التي تسعى لهدم النسيج الاجتماعي من الداخل. ما زالت القوى التي تتبنى سياسة "فرِّق تَسُد" تمارس لعبتها بأدوات جديدة: حسابات وهمية، وتريندات مصطنعة، ومؤثرين مأجورين. لكننا، إن أردنا، قادرون على كسر هذه الدائرة، متى ما توفرت لدينا إرادة حقيقية لصناعة الوعي، وشجاعة أخلاقية لمواجهة أنفسنا أولًا. في نهاية المطاف ، لا يمكن إيقاف الذباب الإلكتروني كليًّا، لكنه يمكن أن يصبح بلا أثر، متى ما كان لدينا شعب يقرأ، ويتحقق، ويفكر، قبل أن يشارك أو يتخذ موقفًا. فالمعركة لم تعد مع خارج يهددنا، بل مع داخل يحتاج إلى يقظة وفطنة وحكمة ..
 

مواضيع قد تعجبك