*
الاحد: 14 ديسمبر 2025
  • 17 نيسان 2025
  • 23:37
محمد صبيح الزواهرة يكتب الرأي العام الأردني ساحة حرب ناعمة

كتب:محمد صبيح الزواهرة

في عالمٍ يتغير بسرعة تفوق قدرة الناس على التحليل، لم تعد السيطرة تُمارس بالقوة الصلبة أو عبر الأنظمة القمعية فقط، بل بات هناك سلاح أكثر فتكًا وهدوءًا، اسمه إدارة الاعتقاد (Perception Management). وهو علم وفن يهدف إلى توجيه العقول، التأثير في العواطف، إعادة صياغة دوافع الأفراد، وتشكيل سلوكهم وتصوراتهم، بطريقة غير مباشرة، لكنها فعّالة جدًا. هذه الإدارة لا تحدث في غرف مغلقة فقط، بل تُنفّذ يوميًا أمام أعيننا عبر صور، فيديوهات، عناوين صحفية، منشورات على مواقع التواصل، وحتى في تعليقات تبدو عفوية لكنها مبرمجة وموجهة.

إدارة الاعتقاد تختلف عن التوجيه الإعلامي أو الدعاية المباشرة. هي عملية معقدة ومتدرجة، تعتمد على الإلحاح، التكرار، واللعب على الأوتار النفسية والدينية والاجتماعية. الهدف منها ليس فقط إيصال فكرة معينة، بل زرع قناعة جديدة بالكامل، وتحويلها إلى “حقيقة” لدى الجمهور، حتى لو كانت بعيدة عن الواقع.

لكن الأخطر والأعمق هو ما يُعرف بـ إدارة الاعتقاد المجتمعي (Societal Perception Management)، وهي ليست فقط التأثير على فرد أو مجموعة، بل إعادة تشكيل الصورة الذهنية الجماعية لمجتمع كامل تجاه قضية ما، أو شخص ما، أو سلطة ما. إنها محاولة هندسة الوعي الجمعي، وإعادة ترتيب أولويات الناس، وحتى استبدال هويتهم الجمعية، تحت غطاء الترفيه أو النقاش أو “نقل الحقيقة”.

في السياق السياسي، تتحول إدارة الاعتقاد إلى أداة مركزية في يد الأنظمة، الجهات الخارجية، وحتى الفاعلين المحليين، من أجل إعادة ضبط الرأي العام وفق مصالح محددة. فهي تُستخدم لتبرير قرارات سياسية غير شعبية، أو لتسويق تحالفات مثيرة للجدل، أو لصناعة عدو وهمي، أو تصوير المطالب الشعبية وكأنها فوضى تهدد الأمن الوطني.

وفي الأردن، تتضاعف أهمية هذا النقاش. فالرأي العام الأردني يواجه سيلًا من الرسائل اليومية التي تستهدف تشكيل مواقفه تجاه الدولة، المؤسسات، القضايا الوطنية، وحتى تجاه نفسه. من جهة، هناك حملات خارجية تسعى إلى زعزعة ثقة الأردنيين بوطنهم ومؤسساته، وتروّج لروايات مضللة هدفها زرع الإحباط والانقسام. ومن جهة أخرى، هناك ممارسات داخلية قد تساهم عن غير قصد في إضعاف الثقة العامة، من خلال إنكار الأزمات، أو تسويق سرديات رسمية لا تجد صدى في وجدان الناس.

إن أخطر ما يمكن أن يحدث لأي مجتمع هو أن يفقد قدرته على التمييز بين الحقيقة والوهم، بين المعلومة والخدعة، بين النقد البنّاء والهدم الممنهج. وهنا تمامًا تتجلى نتائج “إدارة الاعتقاد المجتمعي”، حين يتحول الناس إلى متلقين سلبيين، يرددون ما يُبث لهم، ويُعاد تشكيل وعيهم بطريقة تخدم أطرافًا قد لا تريد لهم الخير.

السؤال الملحّ هو: كيف نحمي الرأي العام الأردني من هذا الانزلاق؟

الحل لا يكون عبر الحجر على المعلومات، ولا عبر محاربة الحرية، بل عبر بناء مناعة فكرية ومجتمعية تقوم على:
    •نشر الوعي الإعلامي والتفكير النقدي، لا سيما في المدارس والجامعات، لتعزيز قدرة الأفراد على التمييز والتحليل.
    •إعادة الاعتبار للإعلام الوطني، ومنحه مساحة من الحرية والاستقلالية ليكون أداة كشف لا أداة تبرير.
    •فتح قنوات الحوار الحقيقي مع الناس، والتعامل مع النقد كفرصة للتحسين لا كتهديد.
    •إعداد مختصين محليين في تحليل المضمون الإعلامي والسرديات الخطابية، ليكونوا درعًا وطنيًا يحلل ويشرح ويوجه.
    •مراقبة الحملات المشبوهة التي تستهدف وحدة المجتمع وثقته بنفسه، دون الوقوع في فخ تكميم الأفواه.

الرأي العام الأردني لا يجب أن يكون أداة في يد الآخرين، بل يجب أن يكون حصنًا منيعًا يحمي الهوية الوطنية وثوابت الدولة، ويُبنى على أساس من الوعي والتحليل. إن التحدي اليوم ليس مجرد مقاومة تأثيرات خارجية، بل هو تحصين عقولنا وقلوبنا ومواقع تواصلنا من كل ما قد يقوض قوتنا المجتمعية، ويضعف من قدرتنا على اتخاذ قرارات حرة وواعية.

مواضيع قد تعجبك