*
السبت: 27 ديسمبر 2025
  • 03 آذار 2025
  • 21:24
مسؤولية طبيب الإخصاب عن نقل السائل المنوي من غير الزوج دون علم الزوجين  فراغ تشريعي أم فجوة عدالة
الكاتب: المحامي الدكتور ربيع العمور

في عالم الطب الحديث، أصبح الإنجاب حلمًا يمكن تحقيقه بفضل تقنيات الإخصاب الصناعي وأطفال الأنابيب، التي منحت الأمل لكثير من الأزواج الذين يعانون من العقم. ولكن، ماذا لو تحول هذا الحلم إلى كابوس قانوني وأخلاقي؟ ماذا لو اكتشف زوجان، بعد سنوات من تربية طفلهما، أن الطبيب الذي وثقا به قد ارتكب خطأً كارثيًا بنقل سائل منوي من غير الزوج إلى الزوجة؟

إن هذه الحوادث ليست محض خيال، بل وقائع حقيقية هزّت أنظمة العدالة حول العالم، حيث أدى الإهمال أو التلاعب المتعمد إلى اختلاط الأنساب وتدمير أسر بأكملها. لكن السؤال القانوني الأكثر إلحاحًا في الأردن: هل يعد هذا الفعل جريمة يعاقب عليها القانون، أم أن هناك فراغًا تشريعيًا يمنح مرتكبي هذه الأخطاء حصانة ضمنية؟

في ظل قاعدة "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"، يواجه النظام القانوني الأردني تحديًا معقدًا، إذ لا يوجد نص صريح يُجرّم نقل السائل المنوي من غير الزوج دون علم الزوجين، مما يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول مدى كفاية القوانين الحالية، وخصوصًا قانون المسؤولية الطبية والصحية رقم (25) لسنة 2018، في معالجة هذه القضية الحساسة.

أولًا: بين الخطأ الطبي والجريمة الطبية – متى يتحول الخطأ إلى انتهاك قانوني؟

يمكن تصنيف حالات نقل السائل المنوي من غير الزوج إلى الزوجة في سياقين رئيسيين:

1. الخطأ الطبي الجسيم – هل يكفي القانون لمساءلة الطبيب؟

في بعض الحالات، يكون الخطأ ناتجًا عن إهمال طبي جسيم، مثل:

خلط العينات داخل المختبر بسبب غياب إجراءات التحقق الصارمة.
نقص التدريب الطبي أو الضغط المهني، مما يؤدي إلى أخطاء كارثية غير مقصودة.

إهمال في توثيق بيانات المرضى، مما يسهل حدوث التلقيح الخاطئ دون قصد.

ورغم أن هذه الأخطاء قد لا تكون متعمدة، إلا أنها تشكل انتهاكًا صارخًا للمعايير الطبية، وتضع مسؤولية قانونية على الطبيب. لكن، هل يعاقب القانون الأردني الطبيب جنائيًا أم يكتفي بالمساءلة المدنية؟

2. التلاعب المتعمد – عندما يصبح الطبيب طرفًا في الجريمة

في حالات أخرى، لا يكون الفعل مجرد خطأ، بل تلاعبًا متعمدًا، مثل:

قيام الطبيب باستبدال السائل المنوي عمدًا، بدافع تجاري أو شخصي.

استخدام عينات من متبرعين دون علم الزوجين، في مخالفة صارخة للأخلاقيات الطبية.

قيام بعض الأطباء باستخدام عيناتهم الخاصة، كما كشفت بعض الفضائح الطبية عالميًا.

في هذه الحالات، يتحول الفعل إلى جريمة محتملة، لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل هناك نص قانوني صريح يسمح بمحاسبة الطبيب جنائيًا؟
ثانيًا: الفراغ التشريعي في القانون الأردني – هل يحمي الطبيب من العقوبة؟
1. مبدأ "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص" – هل يقف القانون عاجزًا؟
وفقًا للمادة (3) من قانون العقوبات الأردني:
"لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في القانون"
وهذا يعني أنه لا يمكن معاقبة أي فعل جنائيًا ما لم يكن هناك نص قانوني واضح يُجرّمه. وبما أن القانون الأردني لا يحتوي على نص محدد يُجرّم نقل السائل المنوي من غير الزوج، فإن مقاضاة الطبيب جنائيًا تبدو معقدة، مما يفتح الباب أمام الإفلات من العقوبة.
2. قانون المسؤولية الطبية والصحية – هل يوفر حماية كافية للضحايا؟
صدر قانون المسؤولية الطبية والصحية رقم (25) لسنة 2018 لتنظيم العلاقة بين الأطباء والمرضى، ونص في المادة (4) على أن:
"يُسأل مقدم الخدمة الصحية عن الخطأ الطبي إذا ارتكب أيًا من الأفعال التالية: الإهمال، أو قلة الاحتراز، أو عدم اتباع الأصول المهنية"

لكن رغم أن القانون يسمح بمساءلة الطبيب مدنيًا، إلا أنه لا يتضمن نصًا صريحًا يُجرّم نقل السائل المنوي الخاطئ جنائيًا، مما يعني أن العقوبة تقتصر على التعويض المالي فقط، دون مساءلة جنائية مباشرة.

3. هل يمكن تكييف الفعل تحت جرائم أخرى؟

في ظل غياب نص قانوني صريح، قد يلجأ القضاة إلى تكييف الفعل قانونيًا تحت مسميات أخرى مثل:

الإهمال الطبي الجسيم وفقًا لقانون المسؤولية الطبية.

الإضرار العمدي بالغير وفقًا لقانون العقوبات.

التزوير في الوثائق الطبية إذا قام الطبيب بإخفاء أو تعديل البيانات الطبية.
لكن هذه التكييفات تظل غير كافية لتحقيق الردع القانوني المطلوب، مما يبرز الحاجة إلى إصلاح تشريعي واضح وصريح.
ثالثًا: الأثر الاجتماعي والأخلاقي – عندما يهدد الخطأ الطبي استقرار الأسرة
1. التأثير المدمر على الأسرة والمجتمع
أزمة ثقة بين الزوجين قد تؤدي إلى الطلاق أو انهيار الأسرة.
معاناة الطفل من أزمة هوية عندما يكتشف أن نسبه البيولوجي مختلف عما كان يعتقد.
انعدام الثقة في المؤسسات الطبية مما قد يثني الأزواج عن اللجوء إلى تقنيات الإخصاب الصناعي مستقبلًا.

2. الأبعاد الأخلاقية – هل يمكن اعتبار الطب مجرد مهنة تقنية؟
تثير هذه القضية تساؤلات أخلاقية خطيرة، مثل:

هل يلتزم الأطباء فعلًا بالمبادئ الأخلاقية والمهنية؟

هل هناك رقابة كافية لمنع التلاعب في مراكز التلقيح الصناعي؟

رابعًا: الحاجة إلى إصلاح تشريعي – كيف يمكن سد الفراغ القانوني؟

لمواجهة هذه الثغرة القانونية، يجب اتخاذ خطوات تشريعية واضحة:

1. إدراج نص قانوني صريح في قانون العقوبات يُجرّم نقل السائل المنوي من غير الزوج دون موافقة الزوجين، مع تحديد عقوبات جنائية واضحة.
2. تعديل قانون المسؤولية الطبية والصحية لضمان وجود عقوبات رادعة للأخطاء الجسيمة في مجال الإخصاب الصناعي.
3. تشديد الرقابة على مراكز التلقيح الصناعي لضمان عدم حدوث أخطاء مشابهة

4. إلزام الأطباء بتوثيق كل خطوات العملية طبيًا وقانونيًا لمنع أي تلاعب محتمل.

خاتمة – نحو عدالة طبية تحمي الأسرة والمجتمع

إن نقل السائل المنوي من غير الزوج دون علم الزوجين ليس مجرد خطأ طبي، بل هو انتهاك خطير يمس جوهر العائلة والهوية الإنسانية. وفي ظل غياب نص قانوني صريح في الأردن، يصبح من الضروري أن يتدخل المشرّع لسد هذه الفجوة التشريعية، وتعزيز الرقابة على المراكز الطبية، وفرض عقوبات صارمة لضمان عدم تكرار هذه الجرائم.

إن العدالة الطبية ليست مجرد مسألة قانونية، بل هي ضرورة لحماية حقوق المرضى، وضمان استقرار الأسرة، وحماية المجتمع من عواقب أخطاء طبية لا يمكن إصلاحها. فهل سنشهد قريبًا إصلاحًا تشريعيًا يعالج هذه الثغرة قبل أن تتفاقم المشكلة؟

مواضيع قد تعجبك