على ارتدادات التغيير الذي بدأ في تونس ومضى يقتحم البلاد العربية تحرك الشارع الإردني مطالبا بإصلاحات سياسية واقتصادية، بعيدا عن الخوض في تفاصيل هذا التحرك لكنه أثمر عن تعديلات الدستور 2011 وعلى أثرها تم انشاء الهيئة المستقلة في الانتخابات عام 2012 لتنتقل مسؤولية إدارة الانتخابات من وزارة الداخلية الى هذه الهيئة الحديثة.
في السنوات العشر الماضية وفي جميع الانتخابات التي مضت كنت عضوا في مركز الحياة – راصد وهو المؤسسة التي أثرت وأغنت سلوكيات الانتخاب الرسمية والشعبية بحضورها وخبراتها في مراقبة الانتخابات واصدار تقاريرها ونصائحها وعملها التشاركي مع الجهات المسؤولة لتحقيق معايير أعلى ومُثل فضلى في مجريات الانتخاب.
هذه المرة في انتخابات المجالس البلدية ومجالس المحافظات قادتني التجربة لأكون في صف الطرف التنفيذي، الذي كنا نراقبه فيما مضى، ولعل الخبرة التي اكتسبتها والمهارات التي رفدتني بها التجربة مع راصد سهّلت مهمتي في التكيف على الجو العام داخل كوادر الفريق الذي كنت فيه، سيما أن هذا الفريق يغلب عليه الطابع التربوي والمعلمون هم الرصيد الذهبي لأي عمل عام رسمي أو أهلي.
كنت مطلعا على التفاصيل التي تُسير إعداد وتأهيل لجان الانتخاب بمساراتها المختلفة، وهنا من باب بيان ملامح التجربة وفي الوقت الذي أحسب فيه على التيار المعارض كان لا بد من إنصاف هذه المؤسسة وبيان عملها.
قبل البداية علينا أن نتفق أن الهيئة لا تُشرع، بل هي مؤسسة تنفيذية لإطار تشريعي قادم من خلال قنواته المعروفة لذلك أيها القارئ إننا هنا نناقش الإجراءات أما بخصوص القوانين فإني متفق مع الكثير بخصوص إجحافها وعشوائيتها وضيقها. كما أننا لا نناقش تدخلات بعض الجهات في الترشيح أو سحب الترشيح للأفراد بل نناقش اجراءات تسيير الانتخابات ضمن معايير تضمن سلامة الاقتراع والنتائج وهذا هو دور الهيئة المستقلة بالتحقق من مطابقة الاجراءات مع التشريعات التي استلمتها ومع المعايير الدولية وتعمل على بيان تفاصيل الانتخابات منذ صدور قرار مجلس الوزراء ولغاية اعلان النتائج النهاية.
هذه الطريق تشمل اعداد وعرض جداول الناخبين الأولية والبت في الطعونات بخصوصها واصدار الجداول النهائية والانتقال لمرحلة الترشح بتفاصيله ثم الاقتراع والفرز واصدار النتائج.
هذا التسلسل يحمل في ثناياه الكثير من العمل ومن يطلع ولو للحظة على كم العمل يدرك المجهود العظيم والوقت الطويل والشغف الكبير الذي يحتويه ويحمله الى جميع الكادر العامل على هذه الأجزاء.
تحديات كثيرة في عمل الهيئة، البنية التحتية والكادر البشري والتأخر في الاجتهاد أحيانا وتشابك بعض الظروف وتأثيرها على عملها. لكن نجحت الهيئة بتجاوز هذه التحديات وحولتها لفرصة عظيمة يبنى عليها في القادم من انتخابات.
كيف؟
كما تعلمون فإن الهيئة لا كوادر فيها كافية لتغطي ما تحتاجه الانتخابات فهي تستعين وكما ورد في قانونها بالمؤسسات والدوائر الرسمية لانتداب وتكليف كوادر بشرية قادرة على تسسير مراحل الانتخاب جميعها.
قد يخطر في بال أحدنا أن يقول أننا بلد كثير الانتخابات وأننا لدينا خبرات متراكمة وهذا يسهل عمل اللجان ، صحيح ولكننا ايضا بلد كثير القوانين، يتغير قانون الانتخاب وتفاصيل التقسيم المحلي( قانون الإدارة المحلية ) مرارا وتكرارا وحكما هذا سيغير في الكثير من الاجراءات التي تخص الانتخاب وأيضا فإن لكل انتخابات نواقصها وتجويدها بتعديل هذه النواقص التي تصل في تغذية راجعة للمعنيين وبالتالي تتعدل الاجرءات لتلافي هكذا شوائب.
اذا فالهيئة بحاجة لتدريب كم هائل من الكادر البشري على الأجراءات الجديدة وفي ظرف زماني قصير نسبيا ومزدحم يعول بالدرجة الأولى على كوادر وزارة التربية والتعليم وزميلاتها من الوزارات بدرجة أقل. كل صندوق اقتراع يحتاج لأربعة أعضاء وكل مركز يحتاج لثلاثة أخرين وثم هناك لجان الانتخاب الرئيسية ثم المدربين وغرف العمليات وهو رقم مهول من المنتدبين والمكلفين!
فكيف نجحت الهيئة في ذلك!!
ما كنت مطلعا عليه هو الميزة التي شدتني الى الهيئة وعملها وهي الاختصاص، هناك قسم لكل شيء يلتقي في أطارلجنة تخطيط ثم يقترح على مجلس المفوضين وبالعكس يأتي القرار.
تجربتي كانت في قسم التدريب، والذي يجب أن يتطور من قسم الى أكاديمية تتشارك مع المؤسسات الداعمة والهيئات المختصة لإيجاد منهج علمي تطبيقي قادر على انتاج كوادر محترفة ثابتة مستمرة. ما ميز هذا القسم والذي اعتقد ان احترافيته في العمل هي جزء من احترافية كامل الأقسام هو التسلسل والبناء الشبكي المبني على قاعدة الهرم، تأصيل المعلومة في القمة وتمكين العاملين عليها عبر مختصين في إيجاد المادة التدريبية والتدريب عليها وإكساب المهارات اللازمة لتواتر نقل الاجراءات بصورتها الصحيحة ثم نشرها لقواعد أوسع عبر المتدربين في طبقات الهرم وتحت آليات تقييم ومراقبة جعلت من لجان الترشح والاقتراع والفرز وغرف العمليات على قدر كاف من التمكن من إدارة هذه المراحل ضمن الاجراءات السليمة.
هو عمل صعب وجهد كبير أن تملك كادرا بسيطا لتمكن كادرا أكبر بكثير في مدة قليلة وتحت عيون مراقبة ولعملية حساسة وقد نجحت الهيئة في الخروج بانتخابات سليمة من ناحيتها.
أما بخصوص التشريع والقانون وسلوكيات المترشحين فهذا موضوع اخر.
هذه الهيئة هي حصيلة تشاركية لمطالب شعبية وإرادة رسمية وعنوان اصلاحي مهم في وقت تضعف فيه مؤسسات الدولة وتقل ثقة المواطنين بها فإن هذه الشهادة هي من باب التأكيد على أهمية الاستمرار في المحاولة لخلق واقع جديد وأردن سيد سائد وذي هوية أصيلة لكل الأردنيين.
تجربة مفيدة وقيمة على المستوى الفردي وهي رسالة لكل من قد يصدر حكما مسبقا على أي عنوان إصلاحي، تعرفوا ثم اشهدوا.
بوركت جهود الكادر الأصيل والمنتدبين والمكلفين.




