*
الاربعاء: 31 ديسمبر 2025
  • 30 ديسمبر 2025
  • 20:38
إسرائيل والقرن الأفريقي الجيوسياسية عبر الاقتصاد
الكاتب: الدكتور سلطان الفالح

شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا لافتًا في التحركات الإسرائيلية باتجاه الممرات البحرية الحيوية والقرن الإفريقي، في إطار تحول أعمق تشهده الاستراتيجية الإسرائيلية يقوم على إعادة تعريف موقع إسرائيل داخل النظامين الإقليمي والدولي. ويعكس هذا التوجه انتقالًا تدريجيًا من الاعتماد على أدوات القوة الصلبة إلى توظيف آليات الاندماج الاقتصادي والوظيفي داخل شبكات التجارة والطاقة العالمية، بوصفها مدخلًا جديدًا لإعادة صياغة النفوذ السياسي والأمني.

 وتجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن فهم التحركات الإسرائيلية في هذا الجانب بمعزل عن تعثر مشروع الممر الاقتصادي الهندي بصيغته التي أعلن عنها خلال قمة نيودلهي عام 2023، إذ اصطدم برفض كل من المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العربية السعودية الانخراط فيه قبل التوصل إلى تسوية سياسية عادلة تقوم على حل الدولتين والعودة إلى حدود عام 1967. وقد أسهم هذا الرفض في دفع إسرائيل إلى البحث عن مسارات بديلة تمكّنها من النفاذ إلى الممرات البحرية الحيوية، بعيدًا عن القيود والاشتراطات السياسية التي تفرضها الدول العربية التقليدية

ولعل بروز القرن الإفريقي باعتباره فضاءً جيوسياسيًا مفتوحًا يتيح لإسرائيل تجاوز القيود السياسية الإقليمية، والانخراط المباشر في واحدة من أهم عقد الملاحة العالمية المرتبطة بمضيق باب المندب والبحر الأحمر. ويأتي الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال ضمن هذه المقاربة بوصفه خطوة تتجاوز بعدها الدبلوماسي الرمزي إلى وظيفة استراتيجية أعمق تهدف إلى تأمين موطئ قدم سياسي– اقتصادي يسمح لإسرائيل بالتحكم غير المباشر في سلاسل الإمداد والتجارة الدولية، وربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي ضمن تصور متكامل للأمن البحري والاقتصادي. ويعكس هذا التوجه اعتماد إسرائيل على منطق الاندماج الوظيفي بوصفه أداة لإعادة إنتاج النفوذ بعيدًا عن الصدام السياسي المباشر.

ويتكامل هذا المسار مع الإطار القانوني  والسياسي الذي وفرته اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 التي ضمنت لإسرائيل حرية مرور الملاحة البحرية عبر مضيق تيران انطلاقًا من ميناء إيلات وصولًا إلى البحر الأحمر وباب المندب. وقد أسهم هذا الامتياز في تحصين التجارة الإسرائيلية وسلاسل التوريد البحرية في مواجهة التهديدات الإقليمية المتصاعدة، سواء المرتبطة بالقرصنة البحرية أو بالتوترات الأمنية في اليمن والبحر الأحمر. ويغدو الاعتراف بأرض الصومال جزءًا من استراتيجية أوسع لتحويل النفوذ البحري إلى أداة للأمن الاقتصادي، بما ينسجم مع التحول الإسرائيلي نحو مفهوم الأمن عبر الاقتصاد بدل الاكتفاء بالردع العسكري التقليدي.

ولا جدال في القول إن اتفاقيات إبراهام 2020 وفر لإسرائيل غطاءً سياسيًا مكنها من توسيع هامش تحركها خارج المجال العربي التقليدي، والانخراط في مناطق استراتيجية حساسة مثل القرن الأفريقي دون كلفة سياسية مرتفعة. وقد تزامن هذا المسار مع الطروحات التي شهدتها اجتماعات مجموعة العشرين 2023 بشأن الممر الاقتصادي الهندي، ما يعكس درجة عالية من الانسجام بين الاستراتيجية الإسرائيلية والديناميات الاقتصادية الدولية الناشئة. 

ويكشف هذا التلاقي عن قدرة إسرائيل على تحويل التطبيع من إطار سياسي رمزي إلى اندماج وظيفي– اقتصادي فعلي، يعيد تموضعها داخل شبكات التجارة العالمية بوصفها فاعلًا لا يمكن تجاوزه. كما ويحمل هذا التحول أبعادًا سياسية عميقة على المستوى الإقليمي، إذ يفرض منطق السلام الاقتصادي بوصفه مدخلًا بديلًا لإدارة الصراع العربي– الإسرائيلي على حساب الحل السياسي القائم على إنهاء الاحتلال وتسوية القضية الفلسطينية. ويتجلى ذلك في امتناع عدد من الدول العربية الموقعة على اتفاقيات إبراهام عن إدانة الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال، ما يعكس تحولًا بنيويًا في فلسفة التطبيع من ربطه بالحصول على مكاسب سياسية عربية إلى منحه شرعية قائمة على الاندماج الوظيفي والمصالح الاقتصادية المتشابكة. 

ومن المهم أن نشير إلى أن هذا المسار سيؤدي إلى تراجع مركزية القضية الفلسطينية في الحسابات الإقليمية، ويضع كلًا من الأردن والسعودية في مواجهة مباشرة مع الاستراتيجية الإسرائيلية، باعتبارهما الدولتين الوحيدتين اللتين حافظتا على ربط أي انخراط اقتصادي إقليمي بشرط الحل السياسي.

ومن هنا نجد أن التحركات الإسرائيلية في الممرات البحرية والقرن الإفريقي تكشف عن استراتيجية متكاملة للاندماج الوظيفي– الاقتصادي والجيوسياسي، تهدف إلى ضمان النفاذ المستدام إلى الممرات الحيوية وتأمين سلاسل التجارة والطاقة، مع إعادة تعريف دور إسرائيل في الإقليم بوصفها فاعلًا مركزيًا في معادلات الاقتصاد والأمن الدوليين. إذ يعكس هذا التحول إعادة صياغة لطبيعة الصراع العربي–الإسرائيلي، حيث يجري تحييد البعد السياسي للصراع عبر تشابك المصالح الاقتصادية، مع إبقاء أدوات الضغط قائمة تجاه الدول العربية التقليدية بما يفتح المجال أمام مرحلة جديدة من إدارة الصراع تقوم على الاقتصاد بوصفه أداة هيمنة جيوسياسية ناعمة.

مواضيع قد تعجبك