خبرني - يعد عمر سليمان واحداً من أبرز الفنانين السوريين الذين استطاعوا نقل الموسيقى الشعبية من محيطها المحلي إلى الساحة الدولية، وعلى الرغم من ذلك لا يعتبر اسمه ملحوظاً بشكل كاف في الوطن العربي.
تعالوا نتعرف على المطرب السوري عمر سليمان الذي بدأ مشواره كعامل بسيط، قبل أن ينطلق نحو العالمية.
البدايات المتواضعة في قلب الحسكة
بدأ عمر سليمان مشواره الفني في سن السابعة حين غنى أغاني الدبكة التقليدية في بلدته "رأس العين" بمحافظة الحسكة.
عمل الفنان السوري في مجال البناء ليعيل نفسه، بينما كانت الموسيقى شغفاً جانبياً يمارسه في أوقات فراغه، غير مدرك أن هذا الشغف سيحوله لاحقاً إلى أيقونة موسيقية عالمية.
وجاءت نقطة التحول الحقيقية عام 1994 عندما أحيا أول حفل زفاف رسمي له، ليجد نفسه بعدها مغموراً بالدعوات المتتالية.
يتذكر سليمان تلك الفترة قائلاً في تصريحاته المتداولة، إنه بعد الحفلات الخمسة الأولى أدرك أن جدول أعماله امتلأ بالكامل، ولم يعد لديه أي وقت فراغ في الأسبوع أو الشهر أو حتى السنة، فيما كانت كل حفلة تؤدي إلى دعوات جديدة، وهكذا انتشرت شهرته كالنار في الهشيم عبر قرى ومدن سوريا.
سحر الموسيقى المختلطة والإيقاع المحموم
تميز أسلوب سليمان الموسيقي بكونه خليطاً استثنائياً يعكس التنوع الثقافي لمنطقته، حيث تتجاور المجتمعات العربية والكردية والتركية والآشورية.
ويروي الفنان أنه كان يغني لكل هذه المجتمعات بأساليبها الموسيقية الخاصة، فيحاكي طريقة غنائهم التقليدية ويمزجها بأسلوبه الشخصي، مضيفاً نكهات من الشوبي العراقي والموسيقى الكردية إلى الدبكة السورية الأصيلة.
حدث التحول الجذري عندما استبدل الآلات التقليدية بلوحة مفاتيح ياماها إلكترونية وآلات إيقاع رقمية، فتحررت موسيقاه الخاصة من القيود الجسدية للعزف التقليدي، وبدأت تتسارع عاماً بعد عام حتى وصلت إلى الإيقاع المحموم الذي يميزها اليوم.
ويصف سليمان هذه الموسيقى السريعة بأنها "نوع من الرياضة تجعلك تتحرك"، فهي تشبه أي رياضة تتطلب القفز والركض، والجمهور يرقص بشكل أكثر حماساً مع الموسيقى السريعة.
أكثر من 500 ألبوم
سجل عمر سليمان أكثر من 500 شريط كاسيت من أدائه المباشر في حفلات الأعراس، كان يقدم كل تسجيل كهدية للعروسين يشبه "ألبوم صور صوتي ليومهم السعيد".
لكن هذه الأشرطة لم تبق حبيسة منازل المتزوجين، بل نُسخت بأعداد كبيرة ووُزعت في محلات الموسيقى عبر المنطقة، محولةً سليمان إلى نجم شعبي دون أي دعم إعلامي رسمي أو شركات إنتاج ضخمة.
وتمتد بعض أغانيه لأكثر من 30 دقيقة في نسخها الكاملة، وأحياناً تصل إلى ساعة كاملة من الأداء المتواصل، حيث تتشابك الألحان الإلكترونية المعقدة مع الكلمات الرومانسية الحزينة، فيما يتعاون سليمان مع شعراء موهوبين يكتبون له الكلمات، وأبرزهم حسان حمادي الذي يمتلك موهبة استثنائية في كتابة الأبيات الشعرية خلال ثوانٍ معدودة أثناء الحفلات المباشرة، حيث يغذي سليمان بكلمات جديدة فورية أثناء الأداء.
الاكتشاف الغربي: من دمشق إلى بروكلين
جاء التحول الدراماتيكي عام 2006 عندما زار الموسيقي الأمريكي مارك جرجس دمشق وسمع شريطاً لسليمان ينبعث من كشك في السوق.
أذهله ما سمعه فاشترى كميات كبيرة من أشرطة الفنان السوري، وبدأ في تجميع أفضل أغانيه لصالح شركة "Sublime Frequencies" في سياتل، تلك الشركة التي تصف نفسها بأنها "مجموعة من المستكشفين المكرسين لاكتساب وعرض المشاهد والأصوات الغامضة من الحدود الحضرية والريفية الحديثة والتقليدية".
أصدرت الشركة أربعة ألبومات تجميعية لأعماله بعناوين محلية مثل "ليالي الجزيرة" و"طريق الحسكة"، معرّفةً الجمهور الغربي بهذا الصوت الغريب القادم من شمال شرق سوريا.
وبدأ عمر سليمان انطلاقته الغربية بتقديم حفلات في أماكن صغيرة بلندن، ثم تدرج إلى المهرجانات الكبرى، حيث قدم عروضاً في مهرجان غلاستونبري الأسطوري ومهرجان بيتشفورك في باريس وعرض CMJ في نيويورك.
التعاونات الدولية: من بيورك إلى Gorillaz
تعاون سليمان مع المغنية الآيسلندية بيورك على ريمكس لمشروعها Biophilia عام 2011، لكن الأمر لم يكن كما يتخيله الكثيرون - فالفنانان لم يلتقيا قط، وتم مزج الموسيقى في الاستوديو دون أن يكون لسليمان رأي كبير في عملية الإنتاج أو حتى في تحديد الأرباح التي سيجنيها من مبيعات الألبوم.
وأنتج الموسيقي البريطاني كيران هيبدن، المعروف باسم Four Tet، ألبوم سليمان الأول في الاستوديو بعنوان "وينو وينو" عام 2013، والذي أصدرته شركة "دومينو ريكورد"، نفس الشركة التي تتعاقد مع فرق مثل Arctic Monkeys.
وحافظ الألبوم على الصوت الأصيل الذي أمضى سليمان سنوات في صقله، مع تحسين جودة الإنتاج فقط.
صدر ألبومه الثاني "بهديني نامي" عام 2015، متضمناً تعاونات مع ثنائي Modeselektor الألماني ومذيع"بي بي سي" غيلز بيترسون وريمكس لكول ألكسندر من فرقة Black Lips.
ومؤخراً، تعاون مع فرقة Gorillaz البريطانية والمغني الأمريكي ياسين باي في أغنية "دمشق" التي سُجلت بين لندن ومومباي ونيويورك ودمشق، وستكون ضمن ألبوم الفرقة التاسع The Mountain المقرر صدوره في فبراير (شباط) 2026، فيما حصدت الأغنية قرابة المليون مشاهدة خلال 72 ساعة. منذ طرحها.
التجاهل العربي والنخبوية الثقافية
رغم نجاحه الغربي الباهر، تجاهلت وسائل الإعلام العربية الرئيسية سليمان بشكل شبه تام حتى عام 2013.
وعبر الفنان عن مرارته من هذا التجاهل قائلاً إنه سعيد بالتغطية الغربية لكن الإعلام العربي والسوري فشل في تقديم أي شيء له.
وبحسب تقارير إعلامية، تنظر النخبة الحضرية السورية في دمشق وحلب إلى موسيقى سليمان باعتبارها نقيض "الحداثة" والثقافة الرفيعة، فهي مرتبطة في أذهانهم بمنطقة الجزيرة النائية ومجتمعات العمال المهاجرين.
حين نشرت الصحف السورية النادرة عنه، جاءت العناوين مثل "المغني الجزراوي السوري عمر سليمان ينال اهتماماً كبيراً في دول أوروبية عديدة"، مشيرةً إلى أن "كثيرين لم يسمعوا به في سوريا"، ثم تكتفي بترجمة ما كتبته المدونات الأوروبية عنه.
وأشار سليمان أيضاً من قبل إلى غياب قوانين حقوق النشر التي تجعل من الصعب على فناني الموسيقى الشعبية والفولكلورية المطالبة بملكية موسيقاهم والحصول على التقدير الذي يستحقونه.
الحرب السورية: الألم والمنفى
أجبرت الحرب الأهلية السورية سليمان على ترك بلدته رأس العين التي أصبحت غير صالحة للسكن بعد معارك بين الأكراد الانفصاليين والجيش السوري وقوات المعارضة.
وواجه رحلة نزوح مرعبة من بيروت إلى تركيا عبر سوريا، حيث اضطر للمراوغة بين قطاع الطرق وسيارات الأجرة المحملة بالجثث، بينما انفجرت القنابل حوله وملأت طلقات الرشاشات الهواء وهو يندفع للحاق برحلة جوية لحفل في أمريكا.
استقر الفنان في مدينة شانلي أورفا جنوب شرق تركيا مع حوالي 3.6 مليون لاجئ سوري آخر، وافتتح هناك مخبزاً مجانياً يخدم العائلات السورية والتركية المحتاجة.
وخلال هذه الفترة قال سليمان بحزن: "كل ما أريده هو أن تتوقف الحرب وأن يعود الجميع إلى حياتهم الطبيعية. عندما أرى أناساً جائعين أو قتلى، يحزنني ذلك، أحياناً لم أعد أشعر برغبة في الغناء".
وفي حادث مؤسف أثناء إقامته هناك، اعتقلت السلطات التركية الفنان في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 بتهم تتعلق بالانتماء المزعوم لحزب العمال الكردستاني المحظور، فيما داهم ضباط منزله في شانلي أورفا واقتادوه للتحقيق، قبل أن يطلق سراحه بعد يومين فقط.
سوء الفهم الغربي والتوصيفات الإشكالية
على مدار سنوات عمله، واجه سليمان في الغرب توصيفات إشكالية لموسيقاه، حيث وصفها بعض النقاد بـ"تكنو الجهاد"، وهو وصف صدمه تماماً حين علم به.
وأكد الفنان أن جميع أغانيه عن الحب، ولا يغني أي شيء سياسي، ناهيك عن الجهاد، كما تحمل كلماته صوراً شعرية رومانسية مثل "أنت مثل تلة عالية كلما صعدتها أعد خطواتي" و"قلبي الصغير يكافح بسبب حبك".
بعد اندلاع الحرب السورية، ربط النقاد والصحفيون موسيقاه بالمأساة السورية بطرق قسرية، وأصبح "مغني أعراس من سوريا التي ضربها الجفاف ومزقتها الحرب"، وأصبحت هويته الدينية والعرقية كـ"عربي سني" جديرة بالذكر في المراجعات الموسيقية.
وحين أصر سليمان أن أغانيه الجديدة عن الحب وليس عن الحرب، فسر أحد النقاد إنكاره كدليل على أن "موضوع الحرب يجعل سليمان متوتراً قليلاً".
برودة الشخصية وحرارة الموسيقى
كان عمر سليمان يظهر في مقابلاته مرتدياً نظارته الشمسية الداكنة وكوفيته الحمراء المربعة وثوبه الأبيض، مدخناً سيجارة تلو الأخرى بهدوء تام.
وحين يُسأل عن تعاونه مع فنانين مثل Four Tet وبيورك، يجيب ببساطة: "تعرف، إنه عمل"، وعن فنانه المفضل للتعاون معه؟ يجيب: "عازف الكيبورد الخاص بي".
وشكلت برودته وسهولته في التعامل، متجسدةً في جلوسه فوق أريكة بيضاء سويدية في شقة بأكثر أحياء ويليامسبرغ تحضراً بنيويورك، تناقضاً مثالياً مع التموجات البرية لموسيقاه.
وواصل التصرف والأداء كما لو كان لا يزال في قاعة زفاف في صحاري شمال سوريا، حتى عندما يكون على خشبة مسرح أمام حشد من الشباب.
وحين سُئل عن نوع الموسيقى الغربية التي يحبها، في مقابلة عام 2013 أجاب لأول مرة بالإنجليزية بدلاً من العربية بكلمة واحدة: "بطيئة"، ثم أضاف: "أحب أي شيء بطيء". إنها إجابة تلخص شخصية رجل يقف في قلب إعصار موسيقي من صنعه، لكنه يحتفظ بهدوئه الداخلي وصفائه الشخصي.




