خبرني - قال أستاذ العلاقات الدولية والمحلل الاستراتيجي الأمريكي أندرو لاثام، إن مقتل جنود ومتعاقدين أمريكيين مؤخراً في سورية أعاد طرح سؤال جوهري طال تجاهله في واشنطن: ما الجدوى الاستراتيجية الحقيقية لاستمرار الوجود العسكري الأمريكي على الأرض السورية؟.
وأضاف لاثام أن هذه الخسائر لا تعكس فقط هشاشة المهمة، بل تكشف فقدانها الانسجام مع المصالح الأمريكية الأساسية في مرحلة تتغيّر فيها أولويات الصراع الدولي.
وأوضح لاثام، أستاذ النظرية السياسية والعلاقات الدولية في كلية ماكاليستر وزميل غير مقيم في مؤسسة "أولويات الدفاع" البحثية الأمريكية، في تحليل نشره موقع مجلة "ناشونال سيكيورتي جورنال"، أن سورية لم تعد ساحة حاسمة في إطار التنافس بين القوى الكبرى، وأن الإبقاء على قوات أمريكية محدودة ومعزولة هناك يعرّض الجنود لمخاطر لا تقابلها مكاسب استراتيجية تُذكر.
توازن قوى إقليمي
أشار الكاتب إلى أن موازين القوة في المشرق العربي لم تعد تُدار من واشنطن، بل باتت نتيجة تفاعل مباشر بين قوى إقليمية كبرى، وأضاف أن تنافس هذه الأطراف، رغم حدّته، يمنع أي طرف منفرد من فرض هيمنة شاملة على سورية أو على الإقليم ككل.
وتابع لاثام أن هذا الاحتكاك المتبادل خلق نوعاً من التوازن غير المنظم، لكنه فعّال، يحقق الحد الأدنى من المصالح الأمريكية التقليدية: منع ظهور قوة إقليمية مهيمنة، والحيلولة دون تحويل الشرق الأوسط إلى أداة ابتزاز للنظام الدولي.
تركيا: كبح الخصوم بدوافع ذاتية
أوضح الكاتب أن تركيا تشكّل عنصراً مركزياً في هذا التوازن، فهي وإن بقيت رسمياً حليفاً للولايات المتحدة، تتبع عملياً سياسة متعددة المحاور تحكمها اعتبارات أمنية وتاريخية خاصة.
وأضاف أن التدخل التركي في شمال سورية حدّ من قدرة كل من إيران وروسيا على توسيع نفوذهما غرباً، حتى وإن لم يكن ذلك منسجماً بالكامل مع الرؤية الأمريكية.
وأشار لاثام إلى أن علاقة أنقرة المعقّدة بموسكو- تعاون في بعض الملفات وصراع في أخرى- أسهمت في إبقاء النفوذ الروسي في سورية مشروطاً ومحدوداً، لا مطلقاً ولا مستقراً.
إسرائيل: ردع منفرد بلا حاجة لقوات أمريكية
قال الكاتب إن إسرائيل تلعب دوراً موازناً من زاوية أخرى، عبر حملة عسكرية واستخباراتية مستمرة تستهدف الوجود الإيراني في سورية. وأضاف أن هذه العمليات لم تتوقف منذ سنوات، ونُفذت بمعزل عن أي وجود عسكري أميركي مباشر.
وأوضح لاثام أن الأثر الاستراتيجي لهذه الضربات يتمثل في رفع كلفة التمركز الإيراني وتقليص قدرته على تحويل سوريا إلى عمق استراتيجي آمن، وهو ما يخدم المصالح الأمريكية دون الحاجة إلى جنود أمريكيين على الأرض.
إيران: نفوذ حاضر لكنه محاصر
تابع الكاتب أن إيران تظل لاعباً مهماً داخل سوريا، لكنها تعمل في بيئة شديدة التعقيد، إذ تواجه في آن واحد ضغوطاً إسرائيلية، ومنافسة تركية، وحسابات روسية لا تسمح لها بالتحرك بحرية كاملة.
وأضاف أن هذا التداخل لا يقوم على تنسيق بين الخصوم، بل على تصادم مصالح يفرض قيوداً عملية على النفوذ الإيراني، ويمنعه من التحول إلى سيطرة مستقرة أو شاملة.
توازن قائم بذاته دون قوات أمريكية
أكد الكاتب أن النتيجة النهائية لهذا المشهد هي نشوء توازن قوى إقليمي لا يعتمد على الوجود العسكري الأمريكي المباشر. فكل طرف يملك ما يكفي من القوة وما يكفي من المخاوف لردع الآخرين، ما يخلق استقراراً هشاً لكنه ذاتي الاستدامة.
وأوضح لاثام أن استمرار وجود قوة أميركية صغيرة في هذا السياق لا يغيّر المعادلة، بل يضيف فقط مخاطر غير ضرورية على حياة الجنود الأمريكيين.
ما الذي تتطلبه المصالح الأمريكية فعلاً؟
قال الكاتب إن المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط كانت دائماً محدودة: منع الهيمنة، وضمان ألا تؤثر صراعات الإقليم في ميزان القوة العالمي. وأضاف أن تحقيق هذه الأهداف لم يعد مشروطاً بدوريات عسكرية أمريكية في وادي الفرات.
وأوضح أن واشنطن تستطيع حماية مصالحها عبر الدبلوماسية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وبناء الشراكات، من دون ربط مصداقيتها الاستراتيجية بوجود عسكري هش ومعرّض للاستهداف.
الانسحاب خيار استراتيجي أفضل
خلص أندرو لاثام إلى أن مقتل الجنود الأمريكيين في سورية، رغم مأساويته، لا يجب أن يتحول إلى مبرر آلي للبقاء، وأضاف أن الشرق الأوسط بات ينتج، للمرة الأولى منذ عقود، توازناً إقليمياً يقيّد جميع الأطراف من دون إدارة أميركية مباشرة.
وختم الكاتب بالقول إن سورية لم تعد ساحة تحدد موازين القوة العالمية، وإن بقاء الولايات المتحدة فيها يبدّد مواردها ويشتت تركيزها عن ساحات أكثر حسماً، مثل أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي أحيان نادرة، يضيف الكاتب، يكون الانسحاب المدروس هو الخيار الأكثر عقلانية وقوة.




