*
الاثنين: 15 ديسمبر 2025
  • 14 ديسمبر 2025
  • 12:16
القاتل الذي غنينا له كيف سرقوا الشموسة من أغنيتنا وقتلونا باسمها
الكاتب: عماد داود

عماد داود

 

الشمس لا تعلّمنا كيف تشرق - فهذا سرّها الأزلي منذ بدء الكون؛ لكنها تعلمنا دائما الإيمان بأن النور عائد لا محالة. "طلعت يا ما أحلى نورها شمس الشموسة" ليست أغنية أطفال؛ بل عقيدة وجودية، وعهد كوني بين البشر والضوء بأن الفجر لا يخون!

إلى أن جاءت "الشموسة"، لتمزّق هذا العهد بأبشع الطرق!

 

على حين غفلة، اختطفوا الشمس من فضاءاتها المقدسة. أخرجوها من مدارات الأساطير والشعر وأسروها في قفص بلاستيكي، ثم أعطوها اسماً دارجاً: "شموسة". ليس سرقة، بل اغتصاب - اغتصاب لغوي يسبق الاغتصاب الجسدي. فما أسوأ من قاتل يداهمك باسم أغنية طفولتك؟

لم يكن الأمر مجرد تسمية تسويقية، بل كان إعلاناً عن نهاية العصر القديم وبداية العصر الجديد الذي تُباع فيه الرموز المقدسة كسلع في أسواق النخاسة الحديث!

 

الشتاء عندنا يهطل بكل قسوته على كل السطوح، لكنه - في صدقه القاسي - يكشف أننا لا نعيش في فصل واحد. هناك شتاءان يتقاسمان الجغرافيا نفسها: شتاء الأغنياء، حيث الدفء حق مكتسب وكمالية جمالية، وشتاء الفقراء، حيث الدفء رهان وجودي، ومعادلة مرعبة بين موتَين: تجمدٌ يقتل ببطء، أو اختناق يقتل فجأة!

في الشتاء الثاني، حيث الحسابات تكون بالليالي وليس بالراحة، تأتي "الشموسة" بحساباتها الجهنمية: "تعمل 18 يوماً بجرة غاز واحدة". هي ليست وعوداً تسويقية، بل محاضر اتهام لحضارة وصلت إلى حد تحويل الاحتياج الإنساني الأكثر بدائية إلى سلعة، والجسد البشري إلى وحدة قياس في معادلات الربح!

 

 

الكارثة الأعمق ليست في الصندوق البلاستيكي القاتل، بل في الصمت المحيط به!. صمت مؤسساتي ثقيل -وإن أتى متأخرا على استحياء- يترجم إلى لغة واضحة: "حياة الفقراء لها أولوية أقل". هي ليست إهمالاً بيروقراطياً، بل فلسفة وجودية في دول العالم الثالث: قبول ضمني بأن موت الفقراء هو "تكلفة تشغيل" مقبولة في معادلة التنمية!

المفارقة تكمن في مصدر الصرخة الوحيدة الأولى: الأمن العام؛ الجهاز الذي تعوّدنا رؤيته حارساً للحدود وللأمن الداخلي بمفهومه الواسع، وجد نفسه فجأة حارساً للأنفاس. حامياً من عدو جديد لا يأتي من وراء الجبال، بل يخرج من خطوط الإنتاج؛ محارباً خطراً لا يحمل سلاحاً، بل يحمل "شهادة مطابقة" مزورة!

إنه اعتراف مريع: الحرب لم تعد على الأرض، بل على الهواء الذي نتنفسه. العدو لم يعد يحمل راية، بل يضع شعاراً تجارياً!

 

"الشموسة" تطفو الآن على سطح المأساة كلغز قاتل: ابنة وطن خائنة أم غريبة متسللة؟ مجهولة الهوية في لحظة الموت كما كانت مجهولة المصدر في لحظة البيع! وهذا الغموض نفسه جريمة مضاعفة: فحين لا تعرف من قتلك، يكون الجميع مشتبهاً بهم. النظام الرقابي الذي سمح لمجهول أن يدخل بيوتنا وينتحل اسم "الشمس" ويقتل أطفالنا - هذا النظام قد خان واجبه الأصلي: أن يكون حارساً للحدود الحقيقية، حدود السلامة لا حدود الجغرافيا.

الضحايا الذين سقطوا حول "الشموسة" لم يموتوا لأنهم أخطأوا. ماتوا لأن النظام أخطأ في حقهم مرتين: مرة حين جعلهم فقراء، ومرة حين باعهم الحلول القاتلة. الطفل الذي اختنق بجوار المدفأة لم يكن بحاجة إلى توعية، بل إلى عدالة. العدالة التي تقول: لا توجد حياة بشرية "رخيصة" ولا نفس إنسانية "أقل قيمة".

والسؤال الآن ليس عن هذا الشتاء ولا عن الشتاء القادم، بل عن الإنسان الحاضر: أي كائن نحن، ونحن نعيش هذه الليالي الباردة، ونعلم أن في بيوت مجاورة أناساً ينامون إلى جوار قاتل محتمل؟

كيف سنكون مجتمعاً لا يقبل أن يكون الدفء - ذلك الاحتياج الإنساني الأكثر بدائية - سلعة بمستويات جودة، حيث الجودة الأقل للفقراء والثمن الأعلى حياتهم؟

 

""طلعت يا ما أحلى نورها" يجب أن تظل أغنية. ليست نشيداً جنائزياً، بل ترنيمة حياة. ليست ذكرى مأساوية، بل وعداً صباحياً.

قبل أن نطالب الفقراء "بتهوية غرفهم"، علينا أن نطالب أنفسنا بتهوية ضمائرنا. قبل أن نلومهم على البحث عن دفء رخيص، علينا أن نسأل: في أي نظام عيش نعيش، حتى صار الدفء سلعة تُشترى، والحياة رهاناً يُقامر عليه؟

الشمس الحقيقية لا تُسجن في مصانع. والدفء الحقيقي لا يقتل. والكرامة الإنسانية ليست سلعة في سوق النخاسة الحديثة!

بعض الأشياء يجب أن تبقى خارج حسابات السوق: أنفاس الأطفال. دفء الأمهات، وأغاني الفجر التي تذكّرنا أن النور، رغم كل الظلمات، يعود دائماً!

 

مواضيع قد تعجبك