*
الثلاثاء: 09 ديسمبر 2025
  • 09 ديسمبر 2025
  • 17:23
سقوط الأكذوبة الإبراهيمية وتفكيك السردية اليهودية من جذورها
الكاتب: طارق خوري

خبرني - سقوط الأكذوبة الإبراهيمية ليس تمرينًا لغويًا ولا خصومة أيديولوجية، بل كشفٌ لواحدة من أكبر عمليات التزوير التي مارستها السرديات التوراتية عبر القرون. ومع التأكيد الواضح أنّ نقد هذه الروايات لا يمسّ إطلاقًا بمكانة إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم، فإنّ مواجهة الأكذوبة الإبراهيمية كما صاغها العقل اليهودي السياسي تبقى ضرورة لفهم ما جرى من تضليل منهجي أريد له أن يتحول إلى “حقيقة مقدّسة”.

منذ آلاف السنين، انشغل العقل التوراتي بصناعة نسبٍ لا جذور له، وبناء أصلٍ لم يوجد قطّ خارج صفحات كتبها كتبةٌ مجهولون، ثم أضفوا عليها هالة القداسة. وهكذا ظهرت “السردية الإبراهيمية اليهودية”، لا كحقيقة تاريخية، بل كمشروع سياسي وورشة تزوير كبرى، أُريد لها أن تكون المرجع الأول للهوية اليهودية ولادّعاء الأصل في أرضٍ لم يعرفوا كيف يؤسّسون علاقتهم بها.

اليهود لم يجدوا لأنفسهم جذورًا حضارية راسخة في فلسطين، ولا ما يسبق الوجود الكنعاني، ولا ما يدلّ على عمقٍ تاريخي يبرّر ادّعاءهم. فاخترعوا نسبًا يربطهم بإبراهيم، وفرضوه على العالم باعتباره “حقيقة”. لكنّ سؤالًا واحدًا يهدم هذا البناء كله:
أهو نسب من سارة أم من هاجر؟

فالرواية التوراتية نفسها لا تجمعهم على أصل واحد، بل تمزّق شجرة النسب بين سارة وهاجر، ثم تضيف إليها رواية زواج إبراهيم من امرأة تُدعى قطّورة التي، بحسب النص، أنجبت له عددًا كبيرًا من الأبناء. أي أنّ التوراة ذاتها تنقض فكرة الأصل الواحد، ومع ذلك يتعامل اليهود مع هذه السردية كأنها شهادة ميلاد أزلية. ليست هذه رواية تاريخ؛ بل محاولة يائسة لترميم فراغ هويّاتيّ عبر أسطورة مصنوعة.

وتزيد الفضيحة وضوحًا عندما يواجه هذا الادّعاء بالنسب الدموي التحليلَ الجيني الحديث، الذي يكشف أن اليهود المعاصرين ينحدرون من أصول دموية متعدّدة ومتباعدة لا تمتّ بصلة إلى فلسطين ولا إلى جغرافيا إبراهيم التاريخية. ولأن العلم يفضح هذه الأسطورة، قامت الدولة اليهودية بحظر الاختبارات الجينية التي يمكن أن تهدم الادّعاء من أساسه، وتُظهر أنه لا وجود لما يسمى “العرق اليهودي”، ولا لأي وحدة بيولوجية تجمع هذا الخليط من الجماعات القادمة من أوروبا والقوقاز وروسيا وشمال إفريقيا. هكذا سقطت خرافة “الشعب الإبراهيمي” حتى قبل أن تُختبر.

وتبلغ الفضيحة ذروتها في رواية التوراة عن سارة وفرعون، التي تزعم، بطريقة تشبه الاتهام الأخلاقي، أنّ إبراهيم قدّم زوجته لفرعون. هذه القصة وحدها كافية لإسقاط السردية اليهودية، لأنها لا تصمد أمام العقل ولا الأخلاق ولا الإيمان، ومع ذلك جعلها الفكر اليهودي نقطة تأسيس لهويّته الإبراهيمية. الرواية مختلقة، وفيها إساءة واضحة لإبراهيم الذي يقدّمه القرآن نقيًّا، صافيًا، راشدًا، وهي لا تمتّ بصلة لصورة أبي الأنبياء في الإسلام. المشكلة ليست في النبي، بل في النص المحرّف الذي بنى عليه اليهود هويتهم المصطنعة.

وقبل أن يكتب اليهود حرفًا واحدًا من توراتهم، كانت القدس مدينة كنعانية كاملة النضج الحضاري، وكانت شخصية ملك صادق، الملك الكاهن، تمثّل رمزًا للبرّ والحكمة والسلام، وتشهد على وجودٍ روحيّ وحضاريّ سابق لليهود بقرون طويلة. هذا الأصل أرقهم تاريخيًا… كيف يدّعون الأسبقية ونواة المدينة الأولى ليست لهم؟ وكيف يقدّمون أنفسهم أبناءً للقدس فيما القدس كنعانية الهوى واللسان والملامح؟

لذلك بدأت عمليات السطو… سطو على التاريخ والجغرافيا والروايات والرموز. حاولوا ابتلاع شخصية ملك صادق ثم عجزوا عن طمسها، لأنها الشاهد الأكبر على أنّ الأصل ليس لهم، ولن يكون.

ومع الزمن تحولت “الإبراهيمية” لديهم إلى مشروع سياسي، لا علاقة له بالإيمان، بل بصناعة شرعية مزيّفة. كل ما في “إبراهيم اليهودي” نسخةٌ مشوّهة لا سند لها، بلا أثر ولا حضارة ولا منطق. إنها سردية محبوكة لخدمة مشروع عنصري يبحث عن أرضٍ ولو عبر سرقة الأنساب والأساطير. هذه ليست دينًا، بل صناعة هوية بديلة لجماعة لم يكن يملك هوية أصلاً.

ومن يريد أن يبحث عن أصل هذه المنطقة فلن يجده في صفحات التوراة، بل في الكنعاني، وفي ملك صادق، وفي القدس الأولى، وفي السردية الحضارية التي سبقت اليهود بقرون. والأهم من ذلك أنّ أصول سكان المنطقة لا يمكن حصرها في نسبٍ واحدٍ أو عرقٍ واحد، لأنّ تاريخ هذه الأرض قائم على المزيج الطبيعي المتنوّع والمتواصل لشعوبٍ عاشت هنا وتداخلت وتزاوجت عبر آلاف السنين. هذا هو الأصل الحقيقي، وهذا ما تحاول السردية اليهودية طمسه بكل وسائلها.

أمّا التفاخر الأعمى بـ“الإبراهيمية” بالصورة التي روّجها الفكر اليهودي، فهو سقوط في أوهامٍ صنعتها أقلام محرّفين لا تاريخ لهم.

مواضيع قد تعجبك