*
الثلاثاء: 09 ديسمبر 2025
  • 09 ديسمبر 2025
  • 10:04
الأردن أرضُ التنوّع التي أنجبتْ ثقافةً سياحيةً رفيعة
الكاتب: الدكتور زيد أحمد المحيسن

في الأردن، تبدو الجغرافيا كأنّها قصيدةٌ طويلةٌ تنبض بالحياة؛ تمتدّ من صمت الصحراء إلى همسات الغابات، ومن زرقة العقبة إلى انحناءات الوادي السحيق عند البحر الميت. هنا، في هذا الحيّز الفريد من العالم، يتقدّم المكانُ ليرسم ملامح الإنسان، ويَهبُه قدرةً استثنائية على استقبال الضيف، واحتضان العابر، ومخاطبة الآخر بلغةٍ لا يجيدها إلا الذين يملكون ثقافة السياحة بوصفها وعيًا وسلوكًا وامتدادًا لحضارةٍ راسخة.

في الأردن، ليست السياحة نشاطًا اقتصاديًا يُقاس بالأرقام فقط، بل هي قيمةٌ اجتماعية تولّدت عبر قرون من التفاعل الإنساني، حيث عبرت على هذه الأرض حضاراتٌ تركت في الصخر نقشًا، وفي الذاكرة أثرًا، وفي الإنسان بصمةً منفتحة على العالم. فالنبطي الذي شقّ جبال البترا، والروماني الذي شيّد مسارح جرش، والعربي الذي حمل رسالة حضارته عبر القاراتجميعهم أسهموا في تشكيل الوعي الجمعي الذي يراه الزائر اليوم في ابتسامة أردنية صادقة، أو في يد تمتدّ بالمساعدة قبل السؤال.

لقد علّمتنا الجغرافيا أن التنوّع ليس اختلافًا يُخشى، بل ثراء ينبغي أن يُحتضن. فهي التي جعلت وادي رم مدرسةً للتأمل، والبحر الميت معلّمًا للصبر، وعجلون مَعْلمًا للجمال. وهذا التنوّع جعل الإنسان الأردني قريبًا من فطرة "الضيافةمدركًا أن السياحة ليست ترفًا، بل رسالةٌ حضارية تبدأ باحترام السائح وتنتهي باحترام المكان، وتغرس في النفوس أن حماية المواقع والبيئة ليست خدمة للزائر فحسب، بل حفاظٌ على ذاكرة الوطن.

أمّا التاريخ، فكان له دوره في صقل هذه الثقافة؛ فالأردن ليس متحفًا صامتًا، بل روايةٌ متدفّقة تحكيها الحجارة بلغاتٍ متعددة. وكل موقع أثري، من أم قيس إلى مادبا، ومن قلعة الكرك إلى الشوبك، يعلّم الأردني أن التراث ليس ملكًا لجيل، بل أمانةٌ في أعناق الأجيال كافة. ولذلك تتجذّر الثقافة السياحية في الوعي الأردني بوصفها واجبًا أخلاقيًا قبل أن تكون ممارسة يومية.

ولأن الإنسان هو صانع الثقافة وحارسها، فقد ظلّت قيم الأردنيينالكرم، الشهامة، رقة التعامل، والإحساس بالمسؤوليةهي الركائز التي تنهض عليها تجربة الزائر. فالسائح هنا لا يلتقط صورًا للمكان فحسب، بل يحمل معه صورةً للإنسان؛ إنسانٍ وجد أمامه عالمًا مختلفًا في الشكل، ومتشابهًا في الجوهر، عالمًا يقول له: مرحبًا… لقد وجدتَ في الأردن بيتًا آخر.

وما أحوجنا اليوم إلى ترسيخ هذا الوعي، لتعميق ثقافة السياحة في مدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا، ولتعليم الأجيال أن حماية المكان احترامٌ للذات، وأن التعامل الراقي مع السائح شهادةٌ بأننا أبناء حضارةٍ لا تتراجع بل تتجدّد. فالثقافة السياحية ليست شعارًا يُرفع، بل منظومة قيم يعيشها مجتمعٌ بأسره، ويقدّمها للعالم كنموذجٍ يُحتذى.

إن الثقافة السياحية في الأردن ليست مجرّد انعكاسٍ لماضٍ عريق أو طبيعةٍ آيةٍ في التنوّع فحسب؛ إنها ثمرةُ التقاء الوعي بالهوية، والإنسان بالمكان، والزائر بالمضيف في مساحةٍ مشتركة من الاحترام والمعرفة. ففي عالمٍ يشتدّ فيه الصراع على صورة الأمم وذاكرتها، يظلّ الأردن قادرًا على أن يقدّم للعالم وجهًا مختلفًا؛ وجهًا يعلّم أن الحضارة ليست مباني شامخة ولا طرقًا واسعة فقط، وإنما هي قيمة الإنسان حين يمدّ جسور المعرفة والمحبة نحو الآخر.

وهنا تتجلّى الرسالة الأعمق: أن الثقافة السياحية ليست مسؤولية مؤسسات، بل مسؤولية مجتمع؛ مسؤولية جيلٍ يدرك أن حماية موقع أثري هي حماية لروحه، وأن استقبال السائح ببشاشة هو امتداد لخلقٍ متجذّر في هذه الأرض. فعندما نؤمن بذلك، نكون قد منحنا السياحة معناها الحقيقي: أن يخرج الزائر من الأردن وهو يشعر أنه لم يزر بلدًا فقط، بل زار تجربةً إنسانية كاملة.

وهكذا، يبقى الأردنبجغرافيته العجيبة وتاريخه المتراكم وإنسانه الواعيأرضًا أنجبت ثقافة سياحية رفيعة؛ ثقافة تجمع بين جمال اللغة وجمال السلوك، بين الأصالة والانفتاح، بين الماضي الذي نعتزّ به والمستقبل الذي نتهيّأ له بثقة ومحبة.

مواضيع قد تعجبك