خبرني - شهدت الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء بمحافظة شمال الشرقية في ولاية إبراء أمسية نقدية وشعرية استثنائية، جمعت بين حساسية الكتابة الشعرية وعمق التحليل النقدي في لقاء حظي بحضور لافت من الأكاديميين والشعراء والنقاد والمثقفين، ،إذ قدّم أ.د. سعد التميمي محاضرة موسعة تناول فيها جماليات الغزل عند الشاعرتين جمانة الطراونة وفوز ريا، مستعيدًا عبر قراءة نقدية مكثفة مسارات التحول العاطفي والجمالي في تجربتيهما، وكيف ينفتح الغزل لديهما على أفق يتجاوز البوح الذاتي إلى بناء رؤية تتشابك فيها اللغة والهوية والصوت الأنثوي المقاوم وقد أوضح التميمي أن الشعر النسائي، كما يتجلى في العقود الأخيرة، لم يعد مجرد امتداد لصوت رجالي يتخيل المرأة ويلبّسها لغته، بل أصبح مساحة للمرأة كي تصوغ لغتها الخاصة، وتنحت تجربتها الوجودية من داخلها،وتوقّف المحاضر عند تأريخ هذا التحول، مبينًا أن الشاعرات كسرن مركزية الإيقاع الخليلي بما يحمله من بنية سلطوية، وفتحْن المجال أمام قصيدة التفعيلة ثم قصيدة النثر لتصبحا وسيطين مناسبين لقول ما لا تقوله الأوزان الموروثة من تفاصيل حميمية، وقلق داخلي، وتجربة جسدية وروحية مكثفة.
وانطلق التميمي من هذا الإطار النظري ليتأمل كيف أصبحت الكتابة النسائية مجالًا لإعادة بناء العلاقة بالذات والعالم، من خلال نصوص جريئة تستكشف الألم، والمقاومة، والصمت، والغياب، وحنين الأمومة، وتكوّن الهوية، وفي هذا السياق، أشار إلى أنه لا يمكن فهم الشعر النسائي المعاصر إلا بوصفه فعلًا ثقافيًا يعيد تموضع المرأة داخل اللغة نفسها، ويحررها من كونها مجرد ركيزة استعارات أو جمالية متخيلة. ومع توسع الفضاء التعبيري، أصبحت القصيدة النسائية اليوم وثيقة وجدان، ومختبرًا للذات الداخلية، وفضاءً دراميًا يتفاعل فيه الصوت مع محيطه الوجودي، ومن هنا برزت أهمية قراءة تجربتين شعريتين مختلفتين جمانة الطراونة وفوز ريا بوصفهما نموذجين يكثفان التحول من بنية الحب التقليدي إلى بنية الحب المعرفي الذي يسائل ذاته وعلاقته بالعالم.
وقد تناول التميمي تجربة جمانة الطراونة بوصفها صوتًا يبني جسده اللغوي على مبدأ التوتر الإيقاعي والامتلاء العاطفي، حيث تتحول الموسيقى في ديوان خاتم الياقوت إلى حامل للمعنى، لا إلى زينة شكلية. أشار إلى أن الطراونة تجمع بين دقة الجملة الشعرية وقوة الصورة، في موازنة تجعل البوح مكثفًا ومشحونًا بلحظة اعتراف، لكنها اعتراف يستبطن خوفًا ورغبة، ويجعل الجسد استعارة مركزية تتوهج عبر طبقات لغوية لا مباشرة، ومن خلال قراءته لأبيات منتقاة، أوضح التميمي كيف يتجلى الصراع بين الاحتواء والاختناق، وكيف يتحول الحبيب إلى كينونة متجاوزة، لا بوصفه شخصًا، بل بوصفه قدرًا عاطفيًا يمتحن الذات ويكشف هشاشتها.
ثم انتقل إلى تجربة فوز ريا عبر ديوانها القائم على مناجاة الأم على حافة الغيبوبة، حيث يتحول النداء «سيدتي العظيمة» إلى نظام صوتي وروحي يعيد بناء حضور الأم داخل اللغة. بيّن التميمي أن ريا تكتب وجعًا صامتًا ينساب في نبرة هادئة لكنها عميقة، وأن الحزن لديها ليس مجرد حالة شعورية، بل طقس يومي يتحول فيه الغياب إلى شكل من أشكال المرافقة، وإلى زمن شعري يتراكم بنداءات تنفتح على البعد الروحي والوجودي. وقدّم مقارنة بين التجربتين، مؤكدًا أن الطراونة تكتب الجسد بوصفه سؤالًا، بينما تكتب ريا الحزن بوصفه طريقًا نحو كشف الذات. ومع ذلك فإن الصوتين يلتقيان في الإيمان بأن الشعر ليس تعليقًا لغويًا على الحياة، بل مساحة يُعاد فيها تشكيل العالم الداخلي للمرأة عبر اللغة نفسها. وختم التميمي بأن تحوّل الصوت الأنثوي من غزل الشطرين إلى مناجاة النثر هو تحوّل ثقافي شامل، يعيد تعريف وظيفة الشعر، ويمهّد لمرحلة جديدة يكون فيها النص النسائي مختبرًا لرؤية، لا ترديدًا لصورة
بعد انتهاء المحاضرة النقدية، انتقل الجمهور إلى مساحة موازية من الاحتفاء بالصوت الشعري الحي، وكأن الأمسية أرادت أن تجمع بين النظرية وتجلياتها، وبين القراءة التحليلية وصوت النص نفسه وهو يتنفس على المنصّة. فقد قرأت الشاعرتان جمانة الطراونة وفوز ريا مختارات من قصائدهما، مقدّمتين للحاضرين تمثّلًا ملموسًا للجماليات التي توقّف عندها التحليل النقدي. جاءت قراءاتهما امتدادًا طبيعيًا لجوهر المحاضرة، إذ لامست القصائد وجدان المتلقّين بما حملته من انفعال ناضج وتوترات عاطفية تتراوح بين الانكسار والامتلاء، وبين الظلال الوامضة والبوح المتدفق ،وتباينت نبرة الغزل بين الشاعرتين؛ فبدت عند جمانة الطراونة أكثر ميلاً إلى الوجد المركّب الذي يختلط فيه الحنين بالصدق الفني ، بينما اتخذت عند فوز ريا شكلاً أكثر قربًا من الاعتراف العميق الذي يشفّ عن هشاشة الروح وقوة حضورها في آن واحد. وبين هذا وذاك، أضاءت القصائد مسارًا متنوعًا يبرز كيف يصبح الغزل في التجربة النسوية الحديثة أداة لإعادة تشكيل الذات، لا مجرد استعادة للحظة وجد عابرة، بل بناءً لمعنى جديد يولد من اللغة ويعود إليها.
وتواصلت الأمسية بقراءة للشاعر حمود العيسري الذي أضفى على المشهد بُعدًا مختلفًا من خلال قصائد تنبض بإيقاعات متوترة وصور تنفتح على فضاءات تخييلية متعددة. وقد شكّلت قراءته حضورًا موازنًا أتاح للجمهور اكتشاف تنوّع الحساسية الشعرية في الأمسية، إذ بدا تداخل الأصوات الثلاثة وكأنه ينسج لوحة شعرية كاملة تتجاور فيها نبرات الوجدان الأنثوي مع اللغة الأكثر انفتاحًا على التأمل الذاتي عند العيسري، لتتشكل بانوراما شعرية ذات مستويات متعددة من الإدهاش
وفي ختام الجلسة، قامت الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء بتكريم أ.د. سعد التميمي والشاعرتين جمانة الطراونة وفوز ريا، في لحظة احتفاء حملت تقديرًا للجهد المعرفي والإبداعي الذي أغنى الأمسية ووسّع أفقها. وبهذا التكريم اكتمل المشهد، إذ غادَر الجمهور وهو يحمل أثر أمسية اجتمع فيها النقد بالشعر، والمعرفة بالتجربة، في ليلة أعادت للقصيدة حضورها وللمنبر الثقافي دوره في تنشيط الذائقة وإحياء الحوار الجمالي.




