*
الثلاثاء: 16 ديسمبر 2025
  • 29 نوفمبر 2025
  • 12:18
الهجرة حين يصنع الغرب أزماته ثم يشكو من نتائجها
الكاتب: الدكتور زيد أحمد المحيسن

خبرني - من يتتبع حركة البشر من الجنوب العالمي نحو الغرب يكتشف أنها ليست اندفاعات طارئة، بل امتداد طويل لأثر تاريخي عميق صاغته الحقبة الاستعمارية وما تلاها من أنماط الهيمنة الاقتصادية والسياسية. فقد أقامت القوى الاستعمارية في إفريقيا وآسيا دولاً استخراجية لا تهدف إلى بناء مؤسسات مستقلة، بل إلى تحويل الأراضي والسكان إلى موارد أولية تدعم المراكز الصناعية الأوروبية، تاركةً دولاً ضعيفة البنية ومجتمعات منقسمة وحدوداً رُسمت بلا أدنى اعتبار لتاريخها الاجتماعي. ومع الزمن، تحولت تلك الهياكل الهشة إلى أرضية خصبة لصراعات محلية متكررة، تتداخل فيها المنافسات الإثنية مع تنازع النخب على السلطة، في ظل فراغ مؤسسي يجعل التنمية هشّة والدولة عاجزة عن احتواء مطالب مجتمعها أو إدارة ثرواتها بصورة عادلة.

وقد عمّق الاندماج غير المتكافئ في السوق العالمية هذا الإرث، إذ ظلت الاقتصادات ما بعد الاستعمارية محصورة في دور المصدّر للمواد الخام والمستورد للسلع التقنية، وهي معادلة تُنتج فرصاً محدودة وتكرّس البطالة وتدفع الكفاءات إلى الهجرة. وعلى الرغم من رفع القوى الكبرى شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن التجربة التاريخية تُظهر أن السياسات الواقعية كثيراً ما دعمت أنظمة غير ديمقراطية طالما أنها تحقق استقراراً يخدم المصالح الجيوسياسية، ما أعاق الإصلاح الداخلي وكرّس علاقة تبعية تمنع تشكّل دولة وطنية قوية وقادرة.

ولأن التاريخ لا ينتهي بانتهاء الاحتلال الرسمي، فقد استمرت أشكال الهيمنة غير المباشرة عبر الديون، واتفاقيات التجارة، وشبكات المصالح التي تبقي كثيراً من دول الجنوب في موقع التابع لا الشريك. وتزداد الصورة تعقيداً مع ضغوط المناخ التي تضرب المناطق الأكثر هشاشة، ومع سباق القوى الدولية على النفوذ في قارات لم تستكمل بعد بناء مؤسساتها الراسخة. وهكذا، تصبح الهجرة اليوم نتيجة طبيعية لبنية عالمية غير عادلة، لا مجرّد خيار فردي.

فالمهاجر لا يغادر أرضه لأنه لا يحبها، بل لأن الأرض نفسها لم تُمنح الفرصة لتكون مستقرة، عادلة، ومزدهرة. وحين يخطو نحو الشمال، فإنه لا يحمل حقائب فقط، بل يحمل تاريخاً كاملاً سُطّر دون إرادة أهله. وفي النهاية، يبقى السؤال معلّقاً على أبواب العالم المعاصر:

هل يمكن لمن صنع جذور الأزمات أن يشتكي من ثمارها؟

إن الهجرة ليست مجرد حركة بشرية؛ إنها مرآة تعكس تاريخاً لم يُحسَم بعد، وآثاراً تركتها القوة على طرق ما زال الناس يسيرون عليها حتى اليوم.

مواضيع قد تعجبك