خبرني - في تلك الليلة التي التصق فيها الصمت بجدران الغرفة كظلٍّ ثقيل، جلس سليم أمام حقيبته المفتوحة، يحدّق فيها كما لو كان ينظر في مرآةٍ تعكس عمره كلّه. كتب على ورقة صغيرة: "لا شيء يشبه الوداع الأول، إلا وداع الوطن". ثم طواها ووضعها في جيبه، علّها تذكّره يومًا بأنه لم يرحل خيانةً، بل بحثًا عن نسمة حياةٍ اختنقت في مكانٍ ضاق بها.
كانت أمّه في الغرفة المجاورة تُصلّي بصوتٍ خافت، تُخفي دموعها خلف تكبيراتٍ متقطعة. تعرف أنه راحل، وتعرف أيضًا أنه لن يعود قريبًا. أما هو، فكان يردّد في نفسه: "أرحل لأعيش، لا لأهرب". تلك العبارة التي يحاول أن يقنع بها قلبه، لكنها كانت تنكسر في داخله كزجاجٍ هشٍّ تحت ثقل الحقيقة.
لم يكن سليم أول من غادر، ولن يكون الأخير. في كل بيتٍ عربيٍّ حكاية شبيهة: شابٌّ حمل حلمه على كتفه وسار في طريقٍ لا رجعة فيه. خرج من بوابة المطار وعيناه معلّقتان بوطنٍ لم يمنحه سوى الوعود. فالوطن الذي لا يحتضن أحلام أبنائه، يدفعهم برفقٍ نحو الغربة، ثم يتساءل بمرارة: لماذا يرحلون؟
المدن هناك في الغرب تنتظرهم بأبوابٍ مفتوحة. يعرف الغرب تمامًا ما يريد: يريد النفط في أعماق أرضنا، والأسواق في شوارعنا، والعقول في رؤوس أبنائنا. يريد المادة الخام لتغذية صناعته، ويريد الأسواق لتصريف بضاعته، لكنه قبل هذا وذاك يريد العقل العربي المبدع ليصنع له الأفكار ويشعل له المصانع ويخترع له المستقبل. لقد أدرك أن السيطرة لا تكون بالمدافع، بل بالأفكار، وأن امتلاك العقول أثمن من امتلاك الثروات.
وهكذا صار الطبيب العربي يبني نهضتهم، والمهندس العربي يخطط مدنهم، والعالم العربي يوقّع على براءات اختراعاتهم، بينما وطنه الأصلي يكتفي بصورةٍ له في الجريدة وتنهيدةٍ في المقهى. ما أقسى أن ترى الأوطان تُستنزف بصمتٍ لا يُسمع، وأن يتحول شبابها إلى مهاجرين يحملون أحلامهم في الحقائب ويتركون وراءهم كراسيّهم الفارغة في المختبرات والمدارس والمستشفيات.
نعلّم أبناءنا بمالنا وجهدنا وصبرنا، ثم نرسلهم إلى بلادٍ بعيدة ليثمر جهدنا في غير أرضنا. نحن نزرع، وغيرنا يحصد. نزرع الوعي، فيجنيه الغرب علمًا وازدهارًا. نزرع الكفاءة، فيحوّلها إلى صناعةٍ واختراعٍ وثروة. ونسأل أنفسنا بعد ذلك: لِمَ لا نتقدّم؟ وكيف نتطوّر والعقل الذي يصنع النهضة يعيش على ضفةٍ أخرى من البحر؟
إن أبناءنا لم يرحلوا طلبًا للترف، بل لأنهم حلموا بوطنٍ يشبه الإنسان. أرادوا وطنًا ديمقراطيًا، وطنَ مواطنةٍ لا رعية، وطنَ حرياتٍ وعدالةٍ اجتماعية، وطنًا يُكرَّم فيه المبدع، وتُصان فيه الكرامة، وطنًا يقوم على الحقوق والواجبات، وعلى سيادة القانون لا على مزاج الأشخاص. وطنًا لا يكون فيه القانون كبيت العنكبوت؛ تقع فيه الحشرة الصغيرة، وتخترقه الكبيرة. أرادوا وطنًا لا يرفع شعارات الإصلاح، بل يعيشها واقعًا؛ إصلاحًا سياسيًا واقتصاديًا وماليًا واجتماعيًا وإداريًا. لكنهم يئسوا حين رأوا الفساد محميًّا لا مطاردًا، والمخلص منفيًّا لا مكرّمًا. عندها فقط حزموا حقائبهم، وساحوا في الأرض بحثًا عن وطنٍ بديل، عن مستقبلٍ يشعر فيه الإنسان أنه مواطن، لا رقمًا في قائمة انتظار.
قال أحدهم يومًا: "أخطر أشكال الفقر هو فقر الفكرة"، ونحن اليوم نغرق فيه حتى الأعناق. شبابنا يغادرون لأنهم لم يجدوا في أوطانهم مكانًا للأمل، والذين يبقون منهم يعيشون على هامش الحلم، يخافون أن يبدعوا فيُقصوا، أو يتكلموا فيُسكتوا. ولو استمر هذا النزيف، فلن يكون هناك مشروع نهضة، بل جنازةُ أمةٍ تُكبَّر عليها أربع تكبيرات.
ومع ذلك، فإن الأمل لم يمت. فالأمم لا تموت حين يهاجر أبناؤها، بل حين تنسى كيف تستدعيهم. يمكننا أن نحول الهجرة من نزيفٍ إلى عودة، من فقدٍ إلى فجر. يكفي أن نخلق وطنًا يسمع الفكرة قبل أن يحاكمها، ويحتضن الموهبة قبل أن تُهاجر. يكفي أن نؤمن أن الإنسان هو الاستثمار الأسمى، وأن الكرامة العلمية لا تقل عن الخبز والماء.
حين نحترم العقل، سيعود أبناؤنا من تلقاء أنفسهم. سيعود سليم ذات يوم، يحمل شهادةً جديدة وابتسامةً قديمة، ويزرع في أرضه ما تعلّمه هناك. حينها فقط، سيتوقف النزيف، ويعود الحلم إلى حضن أمّه الأولى — الوطن.




