خبرني - تتوسّع مدينة عمّان عمرانياً بوتيرة سريعة، تتبدّل معها ملامحها يومًا بعد يوم، وتعلو عماراتها في الأحياء القديمة والجديدة، كأنّها شاهدة على عصر من الحداثة والإسراع العمراني. لكن خلف هذا التقدم، تظهر ظلال غير مرئية من الانفصال والضيق النفسي، إذ أفرزت هذه العمارات شكلًا من السكن، أصبح بمثابة "القفص المزخرف" الذي يفرض على الإنسان ساعات طويلة من العيش المحصور، بعيدًا عن الطبيعة، بعيدًا عن فسحة النفس والحرية.
في هذه الأبراج المتراصّة، تتجاور أسر من خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة، فتتشكل مجتمعات صغيرة لا يجمعها سوى الجدار المشترك والممرّ الضيق والمصعد المتعب. وغياب التنظيم الرسمي والإرشادات الواضحة لإدارة هذه المجتمعات يزيد المشكلات اليومية تعقيدًا؛ فمن يدفع أجرة الحارس؟ ومن يتكفّل بصيانة المرافق؟ ومن يتحمّل نفقات النظافة والإضاءة؟ كلّها أسئلة معلقة في فضاء عمارات صمّاء، تخلو من روح المواطنة الحقيقية.
أما عن جودة البناء، فالأمر مؤسف؛ فالكثير من الشقق تشهد الغش في المواد، وسوء التشطيبات، وضيق المساحات، وانعدام العزل الحراري والصوتي. وكأنّ الهدف الرئيس من تشييدها هو الربح السريع، لا راحة الإنسان أو كرامته، إذ يُنظر إلى المسكن كسلعة يُباع ويُشترى، بعيدًا عن البُعد الإنساني الضروري للحياة الكريمة.
تحولت العمارات في كثير من أحياء عمّان إلى كتلة إسمنتية خانقة، بلا شجر، بلا فناء، بلا ممرّات آمنة للأطفال أو كبار السنّ. لا هواء نقيّ، ولا شمس دافئة، وكأنّ الساكن يعيش في سجن اختياري مزخرف من الخارج، بارد من الداخل، تحاصره الجدران من كل جانب.
إنّ بناء المدينة لا يبدأ بالإسمنت والحديد، بل يبدأ بالإنسان، بثقافة مواطنة حقيقية تُعلي من شأن الجيرة وتكفل للإنسان حقّه في بيئة سكنية صحية وآمنة، قادرة على استيعاب احتياجاته النفسية والاجتماعية. فالتخطيط العمراني لا يكتمل إلا حين يصبح الإنسان محور المدينة، لا حين يُحاصر داخل صندوق ضيّق يُسمّى شقة.
ولعلّ الوقت قد حان لإعادة النظر في فلسفة الإسكان في عمّان، والانتقال من "ثقافة القفص" إلى "ثقافة المسكن الإنساني"، الذي يوفّر للإنسان فرصة العيش بكرامة وحرية، لا مجرد البقاء ضمن جدران جامدة.




